في الأسبوع الماضي، كانت درجة الحرارة تقترب من الصفر في الفجر، عندما أوقفتُ سيارتي بجانب مبنى صغير مُنعزل لبيع القهوة، فتَح العامل شباكه الصغير بتثاقُل ليَسَمعني دون أن ينظر إلي مباشرة. لم يُخامرني شك من أنَّ الرجل مُتعَب من العمل الطويل، والليل، والبرد، والوحدة، والغربة، ومن فظاظة بعض المشترين؛ فليس هناك أسوأ من أخلاق العابرين إذا انحدرَت. هو ومَن يعمل مثله يعرفونها جيدًا. ابتسمتُ وألقيتُ إليه تحيةً كاملةً أَعنيها. أستطيع أن أرى عجبَه منها. قدَّم ما طلبتُ، فشكرته. شيءٌ ما أو قل طاقة بدأت تظهر على مُحَيّاه المرهق ليبشّ. تحركَت السيارة، وما هي إلَّا لحظات حتى خرج من مبناه الصغير، ينادي ويتبعني لمسافة، وعندما توقفتُ سألني أن أعطيَه كوبَ القهوة ليستبدله. عرفتُ منه أنَّ القهوة جيدة، وسألني إن كنت أرغب أن يعيد إعدادها ويضيف عليها ما يزيد من نكهتِها. أدركتُ من مبادرتِه، كم أنَّ الناس -كل الناس- بحاجة فقط إلى التقدير ليعطوا أحسن ما لديهم، وأنَّ ممرَّ العابرين هو من أصعب الأماكن التي يضطر الإنسان للوقوف فيها؛ لأنَّ كثيرًا من العابرين وهم يختفون ويتلاشون بسرعة، غالبًا ما يزهَدون بحمل مَتاعهم الأخلاقيِّ، وبدلاً من ذلك، فهم يختزلون وجودهم المؤقت بمشاعر لحوحة وآنية وفجَّة، ومنها الكراهية، تلك التي يصَفها نجيب المانع بالعاطفة سهلة الإثارة في كتابه (ذكرياتُ عُمر أكلته الحروف) بالقول: «لقد عرفتُ وأنا أنزل من سلم الحياة، أنَّ إغراء الكراهية أقوى من أيِّ إغراء في العالم، أولاً لأنها أهونُ العواطف، وثانيًا لأنها أقواها، وثالثًا لأنَّ أيَّ شيء في إمكانه أن يثيرها: يكفي أن لا تعجبك القصيدة كي تكره صاحبَها، ويكفي أن تشمئز من صورة ما كي تكره راسمَها، ويكفي أنَّ شخصًا ما لا يستقبلك بحرارة كي تكرهه... فما أفقر المشاعر البنَّاءة في العالم!».