استوقفتني كلمة لتوماس هنري عالم الأحياء البريطاني حين قال: «عمق خطايا العقل أن يعتقد شيئا دون أدلة»، ولعل من يتابع مفردة الخطايا في اللغة يجدها جمع خطيئة وهي ما عظم من الذنب ومخالفة للشريعة الإلهية أو إساءة تستلزم الصفح أو التعويض، والبشر جبلوا على الخطايا، إلا أن خطايا العقل لها مساراتها الكثيرة والخطيرة فما الإشراك بالله، وسوء الظن، والتفكير خارج حدود العقل إلا بعض صورها، من هنا كيف أعرف مسارات هذه الخطايا؟ وكيف أعرف أن الذي عرفته حقا وليس وهما حتى لا تجتاحني الخطايا؟ وهل المعرفة إحساس باطني يكتفى به أم هي عملية موضوعية تطلب اثباتا وتأكيدا؟ فعادة يطمئن أغلب الناس إلى ما تمنحه أنفسهم لهم من قناعات وأفكار وأحاسيس فيعتقدون في سلامتها ويؤمنون بها ويوجهون بها حياتهم، والنتيجة أننا نرى الشعوب تحمل اعتقادات متنوعة ومتناقضة لا تحصى وحجة كل واحد منهم تعود إلى ما يحياه في أعماقه من راحة وسكينة واطمئنان فيزداد اعتقاده رسوخا يوما بعد يوم بصحة ما يحمل من أفكار وما يؤمن به من مبادئ، ومثل هؤلاء كمثل مريض الفصام الذي يطمئن إلى هلوساته السمعية والبصرية فيعتقد في صحتها وأن ما يراه وما يسمعه موجود حقا لا ريب فيه، وكيف يرتاب فيه ونفسه تعيشه وترى وتسمع وتصدق ما ترى وتسمع، وإن واجهته بدليل موضوعي بأن ما يراه ويسمعه ليس إلا هلوسة وهمية لا حقيقة لها فإنه سيكذبك حتما، بل سيتهمك بأنك متآمر ضده وتريد أن تشككه في ثوابته التي يعتقد فيها ويعيشها بكل أحاسيسه وقد يتحول الأمر إلى مصادمتك ماديا ومحاربتك خوفا عن نفسه منك.إن من يحمل في رأسه وقلبه أمورا لا حجة له عليها يعيش مثل هؤلاء لا قدرة له على إثبات شيء ولا قبول أي شيء مغاير لما يحمله، لأجل هذا فإن عمق خطايا العقل أن يعتقد شيئا دون أدلة لأن الدليل هو الخط الفاصل بين الوهم والحق، ولا يكون الدليل دليلا إلا اذا كان أداة اثبات لنفسه أولا ولغيره ثانيا، فإن كان أداة اثبات لنفسك فقط فهو ليس دليلا، وإنما هو وهم صنعته نفسك لتبقى في وهمها مطمئنة، بهذا نفهم لم لا يهدأ العقل في سعيه الدؤوب من أجل بناء الأدلة والحجج والبراهين ومراجعتها والتحقق منها باستمرار بلا توقف لأن العقل نفسه قد يصنع أوهامه فإن لم يحمل نفسه بهذه المراجعات المستمرة فإنه يقع حتما في أوهامه وهذه هي أعمق خطايا العقل، وهي التي تسوق التيارات الدينية خاصة والأفراد غالبا إلى مناحي التطرف والغلو والانغلاق وبعدها تحملها على الإرهاب. فالعقل هو الممايز للحقائق والأدلة، وبه اهتدى الإنسان لمعرفة ربه وخالقه فعبده واثبت له الجلال والكمال ونزهه عن النقائص والمحال، وكلما أعمل الإنسان عقله وتصرف ببصيرته حظي بالأمن ونعم بالسلام وساد المجتمع بالألفة والوئام وأمن الناس على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، لذا تصبح فكرة «المراجعات» أمرا مهما، فالعلماء والسياسيون حين يكون لهم آراء قبل سنوات ثم يضعونها في ميزان المراجعة والتصحيح حتى لا يستمروا في شباك الخطايا. لذا يظل الدليل والبرهان جوهر عمل العقل، ومن شرّع لنفسه إسكات العقل في أمور بدعوى أنها تتجاوز العقل فإنه يريد بهذا أن يشرّع لنفسه نشر الأوهام دون أن يطالب نفسه أو يطالبه أحد بالدليل. فلو صدقنا بهذا لوجب علينا تصديق كل الخرافات التي يعتقد فيها الناس في مللهم ونحلهم لأن حجتهم أنها أمور فوق العقل ليس لنا إلا قبولها، من هنا أكرمنا الله بالعقل ومن ثم فمن ادعى أي أمر للناس نقول له: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، وفي المقابل يدعونا منطق العقل لاستذكار خطايانا، ونسيان خطايا غيرنا، فإن هذا يحمل الشخص إلى الاعتبار والتعقل والمحبة والتواضع، أما المتعالي والمستفرد بمنطق الأنا والممتلئ كراهية فإنه ينسى نقصانه وخطاياه ويتذكر خطايا غيره فقط، عندها سيكون فريسة للخطايا.