((لقد هرمنا))..، تلك المقولة التي أطلقها وباح بها الشيخ التونسي الهرم بعد ثورة الشعب التونسي، قالها واضعا يديه على رأسه ليجد أن رأسه قد أصبح أبيض اللون وانتشر الشيب به. قالها في مقابل تلفزيونية له في أثناء الثورة التونسية، وقد أصبحت هذه المقولة على لسان كل الشعوب العربية بل تناقلتها معظم الفضائيات العالمية. .. ((لقد هرمنا)).. هذه العبارة التاريخية توازي في قوتها وحيويتها وتأثيرها، مثل المقولة العربية التي قالتها امرأة في عهد الخليفة المعتصم بالله حين قالت..((وامعتصماه))..،. فعلا، والله.. ((لقد هرمنا)).. وانتشرت الأمراض في أجسادنا وفتكت بها، وتفشت الأوهام فأزعجيتنا، وزادت مخاوفنا، وتعدد قلقنا، وقتلت أحلامنا الكبيرة والصغيرة في مهدها ولم نستطع أن نبوح بها. فظلت جاثمة على صدورنا التي تكاد تطبق علينا. فلم نعد قادرين أن نحلم. )) لقد هرمنا، ونحن ما زلنا نتتظر في كل محطات القطارات برجاء أن يأتينا.. [أمل].. أو بصيص منه، نستطيع أن نتفاءل به. ولكن لم يأتِ ذلك الأمل المفقود. لقد هرمنا، من المجتمع الذي يكبر الصغار ويحقر من قيمة الكبار. هرمنا ونحن ننتظر الحرية النظيفة والراقية والحضارية. لقد هرمنا، من مجتمع وأمة ما زالت تقدس..(( [القدم])).. وتحقر.. [العقل].. أمة تعظم الفنان والمطرب على العالم والفقيه والمثقف. أمة تسمع من..((أقدامها)).. فلذلك هي دائمة الرقص فوق كل شيء، وعلى أي شيء. ومن أجل أي شيء. ويل، لمجتمع، لا يقدر قيمة تضحيات المثقفين والمصلحين والمتنورين، وهم قد هرموا. ويلٌ لنا، ولأمتنا التي لم تفهم، ولم تستوعب بعد، معنى قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد 11). وحينما يعبر المثقف عن الألم فإنه إنما يعبر عن آلام أمة، ولأنه يعبر عن امتعاض المثقف مما تتردى فيه أوضاع الوطن، وانحطاط الأمة لأنها تنكّبت عن طريق الهوى وآثرت هوى النفس على هدى الله. )) كثراً ما رأينا وسمعنا مثل هذه الهموم والتحديات والأوجاع والمنغصات بين نفى وإثبات وبين مغالٍ في السلبية ومعتدل في الرفض وبين متحمس في التعصب لإثبات الوجود فقط. وقد لا تنتهى المناقشات والمعارك إلى الوصول على نتيجة حاسمة بسبب إصرار كل فريق منا على موقفه ورأيه دون قبول الرأي الآخر. وينسون أن النقد يفترض أن يعبر عن أحاسيس المواطن ويكون معبرا حقيقيا عن طموحهم وهمومهم. وهذا ما أفقدنا شخصياتنا وبعض ذلك النقد فيه من الضعف والسطحية والسقم بدرجة لا يمكن أن يصبح نقداً مقبولاً. وهذا نوع من أنواع التجني وإنكار الحقائق. )) ويل، لنا، من أمة وقد هرمت، وهي تهين كرامة زعمائها، وتصفق لإهانتهم. ولقد هرمنا من مشاهدة هذه المشاهد المقززة والمنفرة واللاأخلاقية. لقد هرمنا، وقد دقت ساعتنا للرحيل، ونحن بعد لم نستمتع بحياتنا، وقضيناها كلها في أزمات تولد أزمات، ومن حروب تولد حروب آخرى. ومن حالات فقر تولد حالات جوع ومجاعة. حتى وصلت إلى..(( [موت الجوع]))..،فهزمنا الجوع، لأننا هرمنا في أخلاقنا. وتلك.. [الخرافة]..، هي التي صاغت لنا قواعد ومبادئ..(( [اليأس الكبير])).. في دواخلنا. ذلك.. [اليأس].. البغيض جعلني أؤمن بأن تاريخي واقعي. وهذه مصيبة أخرى يعيشها المثقف. بيد أني أدرك أن الكبير.. كبير، مها قذف بالحجارة. )) إن.. [أدب الحزن]..،و,.. [ثقافة الحزن].. ومفرداتهما ونصوصهما لا تذكر في أدبياتنا المعاصرة إلا فيما ندر. وعودة لأدبنا وثقافتنا وفكرنا العربي نجد أن المثقف والشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعرى، يعتبر أحد أهم المراجع المهمة في هذا الجانب. وهذا ما أظهره المعّري في ديوانه.. [اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم].. لأبي العلاء المعرّي، شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء. وقيل عن هذا الديوان أنه الديوان الفلسفي الوحيد في اللغة العربية. ففيه النقد اللاذع لكل شيء في الحياة. واليوم حين يظهر ويبرز..((الحزن)).. في أدبنا وثقافتنا فغالباً ما يظهر على شكل.. [مادي].. وهذا عائد لمتغيرات وإفرازات الحضارة الاستهلاكية والاستفزازية الغربية فهو يتشكل أحياناً على طريقة.. [التيك أوى].. الغربية. وإن ظهر.. ((الحزن)).. في أدبنا وثقافتنا في هذه المرحلة فإنه يكون قد خرج من..[إسطبل الشر].. فيخرج من ذلك الإسطبل ويركض هنا وهناك وبقوة مجنونة، لا تجد من يروضها. وهذا حال الثورات العربية. وهذه مصيبة من المصائب التي جعلتنا نهرم بسرعة. )) لقد هرمت حين كنت أظن -مخطئا- أني ولدت صحافياً.. [كبيراً].. حين انتقدني وهاجمني بعض كبار الكتاب في وطني عندما صدر لي أول كتاب في حياتي الأدبية وهو كتاب همسات العريف، الجزء الأول. عشت ذلك.. الوهم الكبير.. طويلا حتى أدركت أنني قد..((هرمت)). )) هرمت عندما عدت لقراءة شهادة ميلادي وقرأت اسم.. [الداية].. أو.. [القابلة].. السيدة روحية رحمها الله - التي ولدت أمي - رحمها الله - وأسكنها الجنة - وأدركت عبر معلومات كبار العائلة أنني ولدت على يد امرأة هرمة - رحمها الله - وهذا حظي السيئ أنني ولدت هرماً. وتبين لي أن لي عمراً قبل ولادتي الثقافية والصحافية والأدبية وبرهان الولادة كان لا يكتب في مرحلة ولادتي، فلذلك أصرّت إدارة الأحوال المدنية بمكة المكرمة، أن تغير تاريخ ميلادي الحقيقي والمدون في شهادة ميلادي الرسمية، ووضعت تاريخا جديد لي، يثبت أنني قد هرمت. ولا تغضبوا مني حين أقول لكم إن تواريخ ميلادنا هي نوع من الخرافات الاجتماعية والتاريخية والسياسية. )) إن تاريخي سبق حياتي فلذلك هرمت. وهذا مأزق كبير في حياة أي مثقف أو كاتب، أو مصلح. وخاصة أن حياة الكاتب أو الأديب تولد حياة دائمة بعد انتهاء حياته العمرية أو الجسدية، لأن حياته الأدبية والصحافية والثقافية تظل باقية فهذا ابن خلدون، والمتنبي، وقس بن ساعدة، وأبو تمام، وعنتر بن شداد، وأبو فراس الحمداني، وغيرهم ماتوا، وشبعوا موتاً، وتحللت لحومهم وعظامهم. ولكن فكرهم وإنتاجهم الثقافي والفكري باقٍ حتى اليوم. لقد حبست وبقوة كل أنواع الأسقام في جسدي!. حتى لا يكتشف أحد أنني قد هرمت، ولكن الظروف والأحوال كانت قد كشفت عورتي العمرية وعرف الجميع أنني هرمت. منذ ولادتي وأنا أشعر بتدفق المشاعر والأحاسيس والطموحات والآمال، ولكن ولادتي.. [هرِماً].. حتى الأوهام الكبيرة التي حملتها كانت.. [هرمة].. بل إنني كهرم لم أشعر بتبدل فصول العام، فلم أعرف الشتاء من الصيف من الربيع أو الخريف كلها تساوت عندي مبكراً. )) وظللت ومنذ ولادتي هرماً أبحث عن.. [قبر شاب].. ليحتوي بقايا جسدي الذي فتكته الأمراض ولم ترحمها. مثلها مثل السجون والمستشفيات والناس وبني قومي. الذين غيروا حياتي. عانيت ومنذ ولادتي من.. [أرق اليأس].. لأنني فقدت الأمل في إيجاد..((قبر)).. لي، يستطيع قبولي وأفكاري وطموحاتي وآمالي وجنوني، وإبداعاتي، و..، و..، و..،!. إن سجلات محاسبتي كبيرة ومليئة بالذنوب والخطايا والأخطاء والتجاوزات التي لا يسعها أي نوع أوعدد من الخزائن الحديدية، ولكن إن شاء الله سوف تسعني.. [رحمه ربي].. الشاملة، فهو الرحمن الرحيم القدوس السلام الجبار المتكبر، الذي قدر لي أن أولد هرما. وجعل سبحانه وتعالى الأيام تستدرجني إلى الأزمات والمشاكل والمعوقات. أنا مؤمن صغير أؤمن بالقدر خيره وشره. لقد منحني سبحانه وتعالى..(( [نفسا لوامة])).. لذا ألوم نفسي على كثير من الأمور والمواقف في الحياة. خوفاً من سيطرة..(( [النفس الأمّارة بالسوء])).. عليّ،. فلا غنى لي عن فضل الله، فأنا صبرت واتقيت، فالله يحب الصابرين والمتقين، اللهم اجعلني منهم. )) لقد ضاق بي رحم الذاكرة، بل إنه تكبّر وتعالى عليّ ورفض أن يدون اسمي في قاعه، وكأن.. [الحظ]. ينتظر بفائق الصبر والانتظار.. ((الشهقة الأولى)).. من موتي ليقول عني ما يريد، عن حياتي الهرمة. إن..((حظى)).. من هذه الحياة ينتظر أدلة موت يستدل بها ملك الموت لكي ينهض، بل في مرحلة الأزمات والمشاكل كان يفتش في كل المناحي عن تلك الأدلة، ولكنه وجد بعضها، ولم يصل للأخرى. وهذا قدري المكتوب عليّ. الحظ، له مزاج خاص في مقاربتي، ويقوّي من مستوى مشاكساتي الإصلاحية والتنويرية. )) في مرحلة ما، جلست على.. [كرسي خشبي ضعيف].. انكسر بي فجأة وكنت أظن أنه يحتمل جلوسا عليه، ولكنه لم يحتمل جلوسي عليه، فقلت ما لهذا الحظ!! حتى الأخشاب والحديد ترفضني. وبينما أنا ساقط من على ذلك الكرسي الخشبي مرّ بي..((حمار)).. ووقف ونظر إلي نظرة استغراب محقونة باحتقار شديد، ثم بال، وأخرج رفاته بتشنيج شديد، شاهدت بأم عيني ألمه وهو يخرجه. ولم أفهم نظرة ذلك الحمار. فالنفس البشرية تنكمش على معان وتفسيرات عميقة. ثم نهق الحمار، وفهمت لماذا وقف؟. ولماذا نظر إلي تلك النظرة الحقيرة؟. وفهمت لماذا بال؟. ولماذا أخرج رفاته؟. وكأنه يقول لي إنني أفضل منك أيها المثقف والكاتب الهرم، فأنا استمتع..((بالحرية)).. في كل مكان، وأفعل ما أشاء !. وكيف شئت؟. ومتى شئت؟. وأعاد ذلك الحمار نظراته لي ونهق وكأنه يقول لي: إنك مثل..((حطب المدفأة))..، احترقت وتحترق لتدفئ غيرك وتظي له المكان. وأنت لم تستفيد، وفعلا بقيت نظرات الحمار لي معلقة وفتح في داخلي اسئلة محيرة واستفسارات عدة، جعلتني اعيش فراغ مزعج. ولم استطع الوصول الي جواب ناجز. وتاركاً الحمار يقود نفسه إلى حيث لا اعلم، فهو يستطيع التحرك في كل الفضاءات المح يطة به. وظلت الآلام مدفونة، لم تستطع التحمل لأنها هرمة. )) ضربني الزمان، أوجعني الزمان، حقرني الزمان، خذ عني الزمان، خضنى الزمان خضة قوية كادت أن تقسم ظهري لو لا لطف من اللطيف. لقد تجاوزت مرحلة..((الظن)).. و..((الشك))..، ووصلت مرحلة..((اليقين الراسخ)).. وبكل درجاته وأشكاله. وأقول لكل من عصى الله اتق الله في نفسك. وسوف أتقي الله فيك. وأقسم بالله الرحمن الرحيم العادل اللطيف أنني أستحي أن ألقى ربي جلت عظمته وأنا حامل لكل هذه الذنوب والخطايا والتجاوزات، لكني مؤمن أن رحمته الشاملة وسعت كل شيء، وأنه غفور رحيم. إني متكل على ربي ولم ولن أقنط من رحمته الواسعة. فإن كان فرح وسرور لي فمن الله وفضل واحسان، وأنا أول الساجدين الشاكرين. وإن كان غير ذلك فحمد له وصبر واحتساب ورضا بقدره وخيرة الله أخيراً. أنني انتظر رياح..(الصبا).. التي هبت وبشرت سيدنا يعقوب برائحة سيدنا يوسف عليهما السلام. وإنني دائم الدعاء: ((ربي زدني علماً والحقني بالصالحين))، بيد أنني اكتشفت وبسبب أنني هرمت أنني جاهل بكتاب الله، القرآن المجيد، بعد ما سمعت حلقات دروس فضيلة الشيخ صالح المغامسي - حفظه الله - إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة، وذلك في القناة السعودية الأولى وقلت: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)). وكما قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: إن المقصود بالعلماء هنا هم علماء اللغة العربية وفوق كل ذي علم عليم. والله، لقد صبرت صبرا يشبه إلى حد كبير صبر سيدنا أيوب عليه السلام فصبر سيدنا أيوب دام 18 سنة، وأنا صبرت لأكثر من أربعين سنة. وأعرف كمسلم صغير أن.. الصبر.. دليل.. [التمكين]..،. إن الأسى المدفون في داخلي لا يعرفه إلا خالقي. وأعرف أن..((الهم)).. لا يزول بسكب الدموع، بل بالتقوى. فكلما احتدم بي الأذى ألوذ بربي وإليه. لأن التقوى تستجلب بحسن الظن به. وأقول كما قال تعالى على لسان سيدنا يوسف الصديق عليه السلام: ((إن ربي لطيف خبير)). وأدعو معى دعاء سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال فيه: ((اللهم إني أسالك إيماناً كإيمان العجائز)). والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وساعة العرض، وأثناء العرض. * أديب وكاتب سعودي