مما لا شك فيه أن التعليم قيمة عظمى تسعى لها كل الأمم، فهو مقياس لتحضرها وتطورها على كل الأصعدة، ولذلك لطالما سمعنا عن ضرورة تطوير نظام التعليم ليحقق غاياته. شكلت المدارس المصنع البشري الذي يُعِد الأجيال كي يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم، ورغم أن هذا النظام (أي المدارس) ذو تصميم فائق الذكاء إلا أنه يواجه تحديا حقيقيا في تحقيق هدفه. المتتبع لتاريخ تأسيس المدارس النظامية بالنموذج الذي نراه حاليا سيجدها أشبه ما تكون بمصانع ذات خط إنتاج معين، هذا التصميم ولد من رحم عصر التنوير الأوروبي والثورة الصناعية وكان لهدف بالغ الأهمية في تلك المرحلة، فقد أدركت الإمبراطورية البريطانية ضرورة خلق نموذج مصمم يمكنها من استقطاب كل الطاقات البشرية في جميع المستعمرات البريطانية بتوفير وظائف تخدم تلك الإمبراطورية، تطورت بعدها الفكرة من مدارس لتعليم القراءة والحساب إلى مدارس تتناول جميع المعارف والفنون. هذا المصنع البشري الضخم ذو التصميم بالغ الاحترافية كان بدرجة عالية من الإتقان مما جعله يصمد لأكثر من 300 عام، تعاقبت عليه الدول والأجيال جيلا بعد جيل، ولكنه على ما يبدو يمر بمرحلة أشبه بمرحلة الشيخوخة. تسارع عجلة التطور وارتفاع عدد السكان ودخول عنصر التقنية بشكل بارز خلال السنوات الماضية شكل سقفا عاليا يواجه أغلب الطلاب اليوم لإرضاء شغفهم وطموحهم المعرفي والوظيفي. هذا الأمر استدعى المختصين في مجال التعليم للبحث في أساليب مبتكرة لتطوير عملية التعليم في محاولة للحاق بالركب ومجاراة هذا التطور. فالمدارس بمنظورها القديم قتلت حس الإبداع لدى الطلاب كما يشير لها السير كين روبنسون أحد المتألقين والخبير في مجال التعليم في العديد من الأبحاث المنشورة له في هذا المجال، وبالإضافة إلى انها لا تراعي الفروق الفردية والتوجهات الوجدانية لدى الطلاب، فهم انخرطوا لاشعوريا في مصانع وجهتهم لوظيفة معينة. التعليم القديم فرز المجتمع إلى قسمين أكاديمي وغير أكاديمي ووجههم باتجاه الاختصاص مما جعلهم متقولبين بقالب معين يصعب الخروج منه هدفه الرئيس الحصول على وظيفة مرموقة توفر لهم حياة كريمة، ولكنه حاليا يواجه صعوبة في تزايد عدد الخريجين في مقابل وفرة الوظائف المتاحة في سوق العمل. دخول عنصر التقنية كان الاختبار الحقيقي لجودة المنتج المقدم في المدارس، فالمعرفة أصبحت يسيرة ومتوفرة، والمدارس التي مازالت تقدم التعليم بإطار تقليدي خلقت حالة من عدم الرضا والتململ لدى الطلاب لأنها لم تعد ترضي شغفهم المعرفي. إذا ما الحل؟ بعد تشخيص المشكلة نحتاج لوقفة صادقة ويبدو أنها ستكون صادمة للبعض، نحتاج لثورة حقيقية في التعليم، أن نستبدل التعليم التقليدي الذي لا يراعي الفروق الفردية بين الطلاب ويقتل حسهم الإبداعي بتعليم محفز لمخيلة الطلاب مثير لفضولهم، وهذا لن يتأتى بالوسائل والأدوات التي تستعملها أغلب المدارس، فمدارسنا الحالية لا تحتوي على مواد تنمي الجانب الحرفي والتقني للطلاب ولا مواد تنمي مخيلتهم كالموسيقى والرسم والتصميم وبقية الفنون. وفي مواجهة تحدي الوظيفة التي يعد الهاجس الأكبر لدى شريحة الطلاب، المدارس لم توجه الطلاب لإكسابهم مهارات تمكنهم من الانخراط في سوق العمل، بل إنها زايدت أعدادهم في اتجاه معين مما خلق فجوة بين الخريجين وسوق العمل. ولذلك على المسؤولين عن نظام التعليم مراجعة النظام من أساسه وابتكار صورة حديثة تستطيع أن تلبي احتياجات المجتمع في المستقبل. وعلى صعيد الأفراد علينا العمل سويا على إدخال عنصر التعلم الذاتي في منازلنا من خلال تطوير مهارات أبنائنا الطلاب في شتى المجالات، وأن لا تكون حكرا على الجانب الأكاديمي بل يجب أن تمتد في شتى المجالات الحرفية والمهنية لننمي مهاراتهم ونخلق منهم جيلا مبدعا، ونهيئهم لمستقبل مشرق بإذن الله.