لأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كما يقول الشرع الحنيف، فإن كافة الرسالات أجمعت أن الجزاء أو العقوبة التي ينبغي أن تفرض على الذين يرتكبون هذه الأخطاء ضد إخوانهم من بني الإنسان أو ممتلكاتهم أو حقوقهم.. كل هذه العقوبات والجزاءات هي بداعي الإصلاح أولاً وردع من يرتكبها عن العودة إلى ارتكابها إضافةً إلى ردع غيره من أن يفعل مثل فعله أو يؤذي الآخرين أو يعتدي على حقوقهم. بل إن كافة الشرائع وحتى القوانين المدنية توقع العقوبة على من يوقع الأذى بنفسه؛ فما بالك إذا كان يوقع الأذى بغيره. وهناك غاية أخرى لا تقل أهمية عن كل ذلك وهي حفظ أمن المجتمعات والأفراد وحماية حقوقهم وأرواحهم وممتلكاتهم، ولولا ذلك لشاع الخوف والاضطراب ولما أمن إنسان على نفسه وأهله وماله. ومع ذلك كله ومع إيقاع العقوبات على الذين يجرمون ويرتكبون الإثم والعدوان على الخلق أفراداً ومجتمعات فما زالت الجريمة موجودة في كافة المجتمعات دون استثناء، ولذلك وجدت السجون التي تحرص كل الأمم خاصة في عالم اليوم ألا تكون وسيلة للانتقام ممن أخطأوا بل لإصلاحهم أيضًا؛ والمملكة التي تطبق أكثر الشرائع رحمة بالإنسان وتعتبر المحافظة على النفس والروح والبدن من الضرورات لكل مخلوق على هذه الأرض، بل حقوق له على المجتمع أن ينفذ التشريعات والأحكام التي تكفل المحافظة عليها.. يشهد القاصي والداني أنها من أكثر الدول جهوداً لتهيئة ما يسمى بالسجون لتصبح إصلاحيات بمعنى الكلمة.. نقول ذلك بمناسبة الاحتفال بأسبوع النزيل الخليجي، الذي مر علينا في الأيام القليلة الماضية، والذي يهدف إلى توضيح الصورة الحقيقية لما هو واقع السجون هذه الأيام، والتي أضحت توفر لمن فيها كل متطلبات الراحة والاستفادة من الوقت؛ لأن ارتكابه للخطأ وتعرضه للعقوبة التي يقررها القضاء لا تعني أبداً حرمانه من حقوقه باعتباره إنسانًا قبل ذلك وبعده أيضًا، وباعتبار العقوبة كما قلنا تطهيراً وتقويمًا وليست انتقامًا فالمدارس التي توفرها الدولة في السجون والإرشاد الديني والأنشطة الرياضية ووسائل الترفيه والمكتبات وورش التدريب المهني والعلاج الطبي المجاني وغيرها من الخدمات التي يستفيد منها النزيل، أياً كانت الجريمة التي ارتكبها والعقوبة التي يقضيها وأياً كانت جنسيته أيضًا؛ كل ذلك يؤكد التحول الايجابي في مفهوم السجين الذي أصبح يطلق عليه نزيل في السجون، التي تحمل في معظمها فعلاً وقولاً اسم إصلاحيات. ولعل أعداد من يكملون دراستهم في المدارس المتاحة لهم في السجن في مختلف المراحل الدراسية بل حتى الجامعية أيضًا، حيث قرأنا في الصحف الأسبوع الماضي أن أحد السجون في جنوب المملكة احتفل بحصول (22) سجينًا على الشهادة الجامعية، وذلك مؤشر بالتأكيد على المئات في مختلف المواقع قد حصلوا على مثل هذه الشهادة علاوةً على غيرها من الشهادات الأدنى منها؛ كما أن حرص الدولة على مشاركة القطاعين العام والخاص في اللجان السعودية الموجودة في المناطق، ومنها رعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم باعتبار ذلك مسؤولية اجتماعية للقطاع الخاص ومسؤولية مجتمعية تعني أنها واجب على كل جهات المجتمع؛ كل ذلك يؤكد الرعاية التي تقدمها الدولة والمجتمع لهؤلاء الذين ارتكبوا أخطاء في حق غيرهم، ومع ذلك فإن الدولة ما زالت تعتبر أنهم أبناؤها الذين يحتاجون إلى رعايتها وهي ستظل تعاملهم كالأم الرؤوم التي لا يدفعها أخطاء أبنائها بل حتى عقوقهم أحيانًا عن محبتهم والعطف عليهم. يبقى أن نذكر هؤلاء الأبناء أنهم في مقابل ذلك ينبغي أن يصدقوا النية ويعقدوا العزم على التكفير عن أخطائهم والعودة إلى أحضان الوطن أبناء صالحين، تركوا خلفهم أخطاء الماضي، وصمموا على أن يكون الغد أفضل - بإذن الله-. * أكاديمي وباحث تربوي واجتماعي