شكلت الأحداث الدامية بين الملايو والمجموعة الصينية التي حصلت في العاصمة الماليزية كوالالمبور سنة 1969م، شكلت بداية التحول الذي يؤرخ له في تاريخ تطور نهضة ماليزيا الحديثة، فهي الأحداث التي نبهت ماليزيا إلى ذاتها، وتفطنت إلى حقيقة مشكلتها، فسارعت إلى تدارك الوضع المتأزم، وعملت على بلورة سياسات تنموية جديدة لمعالجة الاختلالات الحاصلة، ولضمان التعايش السلمي بين المجموعات البشرية المتعددة، وخاصة بين الملايويين والصينيين. وفي هذا النطاق وضعت الحكومة الماليزية سنة 1970م، سياسة تنموية أطلقت عليها تسمية (السياسة الاقتصادية الجديدة)، على أن تستمر لمدة عشرين سنة إلى نهاية سنة 1990م، وارتكزت هذه السياسة على فلسفة اقتران التنمية بالمساواة، التنمية التي تقود إلى المساواة، وتتخذ من المساواة مرتكزا لها، وهدفا بعيدا، وبعد سنة 1990 وتواصلا مع سياساتها التنموية انتقلت ماليزيا إلى مشروع رؤية 2020م التي ما زالت قائمة ومستمرة. ومن هذه الجهة يرى الدكتور محضير محمد أن اقتران التنمية بالمساواة ينطوي في ماليزيا على أهمية خاصة، نظرا لكونها تحصل في مجتمع يقوم على التعددية العرقية والدينية، ذلك لكون السكان الماليزيين الأصليين يشكلون نحو 60 بالمائة من مجموع سكان البلاد، لكنهم يحتلون موقعا متأخرا على مستوى الثروة والمداخيل مقارنة ببقية السكان الذين ينحدرون من أصول عرقية أخرى، الوضع الذي أوجب تدشين سياسة اقتصادية جديدة تم تصميمها بما يكفل للسكان الأصليين الحصول على نصيبهم من الكعكة الاقتصادية. ولهذه الغاية ركزت السياسة الاقتصادية الجديدة على هدفين: الأول تقليل الفقر، والثاني إعادة هيكلة المجتمع. وفي نظر بعض الباحثين الماليزيين أن ماليزيا بفضل هذه السياسة حققت إنجازات غير مسبوقة في مكافحة الفقر، ويرون أن تجربتها في هذا الشأن تعد من أبرز التجارب التي كللت بالنجاح على مستوى العالم، فخلال ثلاثة عقود (1970م-2000م) انخفض معدل الفقر من (52,4%) إلى (5,5%)، مما يعني أن عدد الأسر الفقيرة تناقص بنهاية عقد التسعينات إلى أكثر من ثلاثة أضعاف عما كان عليه الحال في عقد السبعينات، وما ينوه به في هذا الصدد أن حكومة ماليزيا وجهت برامج تقليل الفقر التي تم تنفيذها لتقوية الوحدة الوطنية بين الأعراق المختلفة المكونة للشعب الماليزي، واستخدمت هذه البرامج كوسيلة سلمية لاقتسام ثمار النمو الاقتصادي، وبذلك ساهمت جهود تقليل الفقر بجدارة في تقليل التوترات العرقية، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي، الذي صار عنوانا لنهضة ماليزيا وازدهارها الاقتصادي. إلى جانب السياسة الاقتصادية الجديدة وتدعيما لها، تبنت ماليزيا سياسة ثقافية جديدة، وذلك انطلاقا من اعتبار أن المشكلة التي فجرت الأوضاع بين الملايويين والصينيين ما كان من الممكن معالجتها، والتخلص من رواسبها، لو تم الاكتفاء بالمعالجة الاقتصادية الأحادية، وبعيدا عن المعالجة الثقافية. إن التفكير في المشكلة بهذه الطريقة هو تفكير صائب، ويعطي ثماره على المدى البعيد، ويكشف عن تفهم حقيقي لطبيعة المشكلة الحاصلة، فالضرورة كانت تقتضي تعاضد المعالجتين الاقتصادية والثقافية، وذلك لثلاثة اعتبارات مهمة، الاعتبار الأول: أن المعالجة الاقتصادية تكون ناظرة إلى الجانب المرئي في المشكلة، بينما المعالجة الثقافية تكون ناظرة إلى الجانب غير المرئي. الاعتبار الثاني: أن المعالجة الاقتصادية تكون ناظرة إلى الجانب المادي في المشكلة، بينما المعالجة الثقافية تكون ناظرة إلى الجانب الروحي، والاعتبار الثالث: أن المعالجة الاقتصادية تكون ناظرة إلى المدى القريب في المشكلة، بينما المعالجة الثقافية تكون ناظرة إلى المدى البعيد. وفي هذا النطاق الثقافي، وضعت ماليزيا سياسة ثقافية، عرفت بالسياسة الثقافية القومية، وارتكزت هذه السياسة على جملة مبادئ من أبرزها: 1- إن أساس الثقافة الوطنية هو الثقافة المرتبطة بإقليم جنوب شرق آسيا. 2- استيعاب عناصر ومكونات الثقافات الأخرى في المنطقة، لإثراء الثقافة القومية. 3- الإسلام الدين الرسمي للدولة، مع كفالة حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر التعبدية للآخرين، فقد اضطلع الإسلام ولا يزال بدور مهم وكبير في تشكيل الثقافة القومية. 4- يشكل الإيمان بالله الركن الأول في العقيدة أو الفكرة الوطنية، ويقود هذا الأمر إلى إدراك التكريم الإلهي للإنسان، واعتبار أن الله خلق الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم للتعارف، مما يؤدي إلى العيش بسلام وانسجام ووئام، كما يدفع إلى تقدير الآخرين، واحترام عقائدهم وعاداتهم وثقافاتهم. 5- تأكيد أهمية مكونات الوحدة الوطنية، عبر اللغة المشتركة، والنظام الملكي «السلطة الروحية»، والنظام النيابي الديمقراطي «السلطة السياسية». ومن الواضح أن هذه السياسة الثقافية، قد أخذت بعين الاعتبار مكونات التعدد في المجتمع الماليزي، وجاءت لغرض حماية هذا التعدد وصيانة وجوده، بالتركيز على مفهوم الثقافة القومية وبناء الهوية الجامعة، ومحاولة تعريف ماليزيا بوصفها دولة لها ثقافة قومية تعرف بها وتتمايز، وتمثل خصوصية لها. وأظن أن هذه السياسة الثقافية شكلت سندا قويا للسياسة الاقتصادية، بشكل لا يمكن النظر للسياسة الاقتصادية بعيدا عن هذه السياسة الثقافية، ويتضح هذا الأمر ويتأكد عند معرفة أن ماليزيا أرادت أن تعبر عن قيمها الثقافية من خلال سياساتها الاقتصادية، لكي تقدم نفسها إلى العالم بوصفها صاحبة قيم ثقافية، وبهذه القيم حققت ما حققت من تقدم وازدهار.