الإرهاب كما قدّم ويقدّم ذاته، هو آفة الأرض التي تأكل كافة قيم السماحة والاعتدال، وتتسلل أكثر ما تتسلل إلى تلك النفوس البيضاء التي تتطلع إلى إقامة موازين العدالة، وحماية الإنسانية، وصون الدماء المعصومة، لذلك يتجه الإرهاب غالبا إما إلى دور العبادة ليضرب أهم معتقدات الناس، أو إلى الأطفال وعموم الأبرياء ليوغر قلوب الناس على بعضهم بوضع التهم في طريق أطياف المجتمع لتعلق مع بعضها، بمعنى أنه ذلك الشيطان الذي يتمترس خلف الدماء البريئة لينال من أمنها، ويحيل بيئتها إلى بيئة دامية، فهو لا يعيش في بيئة الاعتدال، ولا يجد لنفسه مدخلا إلا حينما تتفاقم الضغائن بين الناس، وغالبا باسم الدين أو المذهب الذي هو براء منه بالتأكيد، وهذا ما سهّل استخدامه مخابراتيا للأسف من قبل البعض ممن وجد في سذاجة تلك القطعان التي تسلّم رؤوسها لمفكريه وقادته ضالته المنشودة ليحوّلهم إلى حطب ووقود مجاني لمآربه وغاياته الدنيئة. وفي اختطاف الشيخ الجليل فضيلة القاضي محمد الجيراني وارتهانه خير دليل على أن الإرهاب يستهدف الجميع سنة وشيعة، لكنه أيضا وقبل هذا لا يستهدف رفاق الفكر المتطرف ودعاة الفتنة والضلال، وإنما يستهدف أولئك الذين يشكلون رمانة ميزان الاعتدال من الجهتين، ويحملون لواء السماحة، وإلا بأي معيار يمكن استهداف رجل بوزن الشيخ الجيراني الذي عرف في القطيف وفي عموم المنطقة بسعيه الدؤوب لجمع الكلمة، وتغليب المصلحة الوطنية، وتوحيد الصفوف، وبث قيم السلم الاجتماعي في المنطقة بين مختلف الشرائح، وإصلاح ذات البين بالعدل والسماحة؟، ماذا يعني استهداف الشيخ الجيراني الذي تحتفظ له كل المنابر بمحاربة الارهاب وكل ألوان العنف، ورفضه استخدام منابر المساجد لإيصال المطالب، عوضا عن القنوات الرسمية، هذا إلى جانب سعيه لتنظيم الأوقاف، ورفضه استغلال مصارف الخمس بإرسالها إلى خارج البلاد كإيران والعراق، بحجة أن فقراء المنطقة أولى بها، وحتى لا تتخذ وسيلة ضد الوطن، وكلها معان في قمة السماحة والوطنية؟. هذه الجريمة البشعة التي تعرض لها الشيخ الجيراني- فك الله أسره وأعاده إلى أهله وذويه- لا تعني سوى شيء واحد وهو أن أخطبوط الإرهاب قد بلغ من الأبلسة ما جعله يصطفي لجرائمه أنبل العقول وأكثرها نزاهة ووطنية، أولا للتهويل عليها وتحييدها عن الساحة، ثم لإخلاء المجال للتطرف الذي يشكل الكنف الأمثل للإرهاب، من هنا تبدو هذه الجريمة لكل ذي عقل بمثابة السكين التي يُراد لها أن تجزّ رأس الاعتدال، لتفسح الميدان لكل فكر يقف على النقيض من فكر الشيخ الجيراني، ولتخوّف من منهجه التسامحي والاعتدالي، لكن هبّة القوى الأمنية والمجتمع بكامل نخبه وشرائحه في استنكار هذه الجريمة، ورفضها، والمطالبة بالاقتصاص من مرتكبيها، وتطبيق أقسى العقوبات عليهم بعد القبض عليهم، أكّد مجددا أن هذا المجتمع سيظل متماسكا بإذن الله، ولن يسمح لإخوان الشياطين أن يمزقوا نسيجه، أو أن يخترقوا سياجاته، بفضل الله أولا ثم تنامي الوعي بين أبنائه بأن الإرهاب لن يفرّق بين ضحاياه من مواطن وآخر، وأن كل ما يرومه هو أن يشعل الأرض نارا، ويطفئها بالدماء.