كان العام 2016 عاما صعبا للقطاع الخاص إجمالا، فقد لاحظنا مؤشرات لتباطؤ النمو وانحسار السيولة «عرض النقود» وتقلص الانفاق الحكومي «لاسيما الرأسمالي ذو الصلة ببناء رأس المال الثابت وبالتالي بناء السعة الاقتصادية». وعند إعلان ميزانية العام 2016، كان باديا أننا أمام إعادة رسم دور القطاع الخاص، وقد تأكد ذلك بعد إعلان الرؤية السعودية 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020. وقطعا، فدور القطاع الخاص ليس دورا منزويا، بل هو ما يمثل مخرجا حقيقيا من مضائق النفط والريع. حاليا، نعايش وضعا صعبا مع الإيرادات لكنه ليس جديدا، حيث تراجعت أسعار النفط بنحو 60 بالمائة، وكانت ميزانية العام المالي المنصرم «2015» قد صدرت بعجز قُدر ابتداء ب145 مليار ريال وانتهت بعجز فعلي قدره 367 مليار ريال. وطرحت صكوك لتغطية جزء منه. بقيمة 98 مليار ريال، وتواصل الأمر حتى هذا العام، فاقتصرت الخزانة ما يزيد على 200 مليار ريال. الحديث عن انخفاض إيرادات النفط في أحلك الظروف وأصعب الأوقات، حديث مكرور ومعروف، فقد عايشنا التأرجحات الممجوجة لسوق النفط مرارات ومرات. وبالتأكيد فمن أعرب عن قلقه من تراجع أسعار النفط خلال النصف الثاني من العام المنصرم «2014» عندما فقد نحو نصف قيمته، فتخوفه تأكد من استمرار «ضعف» أسعار النفط خلال العام «2016»، وها نحن الآن نعايش الآمال بتحسن أسعاره عقب الاتفاق «التاريخي» بين الدول المنتجة من داخل وخارج أوبك لخفض الإنتاج رغبة في تحسين الأسعار. وبغض النظر عن ذلك، فمع قصور الإيرادات عن تغطية المصروفات يعود سيناريو اقتصادي، لا نخرجهُ من خِبائهِ إلا عند الاضطرار! فما أن تتراجع أسعار النفط، حتى تقفز للواجهة مقولة: إن علينا التخفيف من سطوة النفط على مقدرات الخزانة العامة، وأنه لا سبيل لذلك إلا بتنويع مصادر إيراداتها، ولن يتحقق ذلك إلا بالتحول الاقتصادي من الريع إلى الإنتاج! فماذا حققنا في هذا الاتجاه؟ في العام 2016 حققنا الكثير في تنمية الإيرادات غير النفطية من جهة وفي خفض الانفاق الجاري من جهة أخرى، وكان ذلك صعبا على الجميع. لكن لابد من الإقرار أن هذا جهد لتنويع إيرادات الخزانة العامة وتخفيف الضغوط عليها في جهد لتقليص العجز، الذي لا يمكن أن يحتمل في حال استمراره عند مستويات تتجاوز 300 مليار ريال، إذ لابد من خفضه إلى الصفر أو حوله «بما لا يتجاوز 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي بحدود 75 مليار ريال». فماذا حققنا على «جبهة» القطاع الخاص؟ يأخذنا ذلك لأجواء بداية الألفية، أي قبل نحو 15 عاما، عندما احتدم النقاش عن أهمية الخصخصة، توسيعا لدور القطاع الخاص، وتحقيقا لتنويع مصادر الخزانة العامة. وتمخض ذلك عن تحديد مشاريع للخصخصة أُعلن عنها رسميا في نوفمبر 2002، وشملت مشاريع تؤدي لخصخصة عشرين قطاعا اقتصاديا، وذلك في مسعى لمعالجة العجز الذي كانت تعاني منه ميزانية الدولة آنئذ. وتضمنت تلك المشاريع خصخصة المرافق والخدمات العامة بما فيها الخدمات الصحية والاجتماعية، كما ضمت بيع أسهم شركات حكومية كشركة الكهرباء السعودية. وشملت أيضا فتح مجال الاتصالات وتحلية المياه والخدمات الجوية وإنشاء الطرق وتكرير النفط أمام القطاع الخاص، على أن تحدد مشاركة القطاع الخاص، وحجم تلك المشاركة وتوقيتها استنادا لاستراتيجية الخصخصة، التي صدرت عن المجلس الاقتصادي الأعلى في يونيو من العام نفسه «2002». وقد وضعت الاستراتيجية أسسا لإجراءات الخصخصة، وتعيين القطاعات التي ستعرض للبيع للقطاع الخاص السعودي والمستثمرين الأجانب، ووضع جدول زمني لنقل بعض الخدمات إلى مشاريع تجارية خاصة. وكانت الرؤية وقتها «العام 2002» أن العائدات التي ستجنى من صفقات الخصخصة ستستخدم في تسديد ديون المملكة الداخلية التي كانت تزيد آنئذ على 600 مليار ريال. وتجدر الإشارة الى أن الاستراتيجية كانت تنفذ تباعا، ففي نهاية ذلك العام طُرحت 30 بالمائة من ملكية الحكومة في شركة الاتصالات السعودية للاكتتاب العام. الآن، وبعد مرور نحو عقد ونصف على إقرار استراتيجية الخصخصة، ومعايشة تراجع إيرادات النفط وتصاعد النفقات، فما الخيارات المتاحة لتجنيب اقتصادنا الوطني الآثار «الانسحابية» لتقلص إيرادات النفط، ولتجنبنا كذلك العودة لتصاعد الدين العام نسبة للناتج المحلي الإجمالي، لاسيما أن العجز المقدر للعام المالي 2016 يبلغ 326.1 مليار ريال؟ لا يفوتني هنا التذكير بأن برنامج التحول الوطني هو برنامج خصخصة بصورة أو أخرى، لكن ما موقف القطاع الخاص منه؟ وجاهزيته له؟ ولعل من الملائم التذكير كذلك، أنه منذ بداية العام 2016 تجدد الحديث حول الخصخصة، لكن يبدو أن العام 2016 كان عاما للبحث عن التوجه، إن جاز التعبير، فقد احتدم النقاش حول خصخصة أنشطة عدة، مثل الصحة والمطارات والمياه والكهرباء والتحلية وحتى الخدمات الاجتماعية، لكن حتى الساعة لم يصدر شيء، حتى فيما يتصل بنشاط له أولوية عالية كتخصيص محطات توليد الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر. وتأتي أهمية تحقيق تقدم في ملف الخصخصة من ناحية أنه المرتكز للحفاظ على تدفق الاستثمارات، وبالتالي حفز النمو «المتكاسل». وهكذا، نجد أن جهد تنويع اقتصادنا والتخفيف من وطأة النفط عبارة عن سلسلة مترابطة الحلقات، بحاجة مستمرة أن تتحرك للأمام سواء ارتفع سعر النفط أم انخفض. وفي المحصلة، فهذا يعني أهمية فصل مسار الخصخصة عن مسار «الحاجة للسيولة»، واحتضان الخصخصة باعتبارها تحوطا ضد تفرد النفط بمقدرات المالية العامة، وسياجا واقيا للتنمية والنمو. وفي هذا السياق، علينا التمعن في الدرس المستفاد خلال العام 2016، بأن انحسار الاستثمار قد أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وأدى كذلك- ضمن أمورٍ أخرى- لارتفاع معدل البطالة إلى 12.1 بالمائة. وتجدر الإشارة هنا أن هذا درس ليس بوسع الاقتصاد السعودي الاستمرار فيه لعامٍ آخر، تجنبا للوقع في ركود اقتصادي سيصعب علينا الخروج منه لاحقا. وبداهة، فسيكون غاية في الصعوبة أن ننفق أكثر من الايراد عاما بعد عام، ولاسيما أن المملكة بذلت جهدا كبيرا للخروج من دائرة الدين العام المرتفع الذي وازى- من حيث القيمة- في وقت من الأوقات الناتج المحلي الإجمالي. وبالقطع، لا يطمح أحد للعودة لتلك الكرة، ديون وسداد ديون والمبالغ المترتبة عليها لتنافس بناء المدارس والمستشفيات. كما أن لا أحد يطمح للعودة مرة أخرى للتوقف العملي لبرنامج استكمال وتحديث البنية التحتية، والعودة لاستئجار آلاف المدارس والمعاناة من نقص في عدد الأسرة ومن قصور خدمات الصرف الصحي، على سبيل المثال لا الحصر. إن ما حققته المملكة خلال عشر السنوات الماضية من انفاق رأسمالي ضخم توجه للبنية التحتية ولزيادة السعة الاقتصادية، أدى لرفع نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي من 18 بالمائة إلى نحو 28 بالمائة، مما أدى لتواصل النمو دونما انقطاع خلال تلك الفترة، رغم ما مر بها من أحداث اقتصادية عالمية عاتية، ليس أقلها الأزمة المالية العالمية، التي تزامنت مع كساد شامل وانهيار لأسعار النفط، لكن المملكة وفي تلك الأيام العصيبة حزمت أمرها بأن أطلقت برنامجا تحفيزيا يرتكز على ضخ ضخم في البنية التحتية، وعلى مدى خمس سنوات. ويدرك الجميع أهمية استمرار الضخ لبناء السعة الاقتصادية. شهد العام 2016 إدارة تقشفية، لتحقيق العنوان العريض الذي أعلنت تحته الميزانية، وهو رفع كفاءة الانفاق. وريثما تصدر البيانات الرسمية حول الانفاق، ولاسيما الجاري، إلا أن الانفاق الرأسمالي قد تأثر، وكذلك مستوى السيولة، كل ذلك أثر على «الاستهلاك الخاص» «private consumption» «وهو ما تستهلكه الأسر من سلع وخدمات في عام» تأثيرا يتجسد في تراجع بعض القطاعات، لاسيما قطاع تجارة التجزئة. وبين هذا كله سنبحث عن دور متنام للقطاع الخاص، لكن حتى هذا الدور يجب أن يكون «مستداما»، لا أن يخبو حينا ويصعد حينا ليعاود الخبو عندما تتحسن إيرادات النفط، ويمكن الزعم أن هذا الدور «المستدام» للقطاع الخاص بحاجة لبيان خطط الانفاق والاستثمار الحكومي على المدى الطويل، لتنتقل العلاقة بين القطاعين من علاقة «تزويد» ومقاولات إلى علاقة شراكة وتعاضد.