يُجهض «النهج الطائفي»، المسيطر على الحكم في العراق، أفق «التسوية التاريخية»، التي أعلنها «التحالف الوطني» (الشيعي)، فيما تشكل القوى الموالية لإيران المشاركة فيه صواعق تفجير لأية «تسويات وطنية ممكنة» تكون قادرة على عبور الانقسامات بين الفرقاء العراقيين. أصحاب «التسوية التاريخية»، التي وجّهوا لها- بسن قانون ميليشيا «الحشد الشعبي»- ضربة قاضية، يجتهدون لترويجها عربيا، بمباركة إيرانية، بعد أن فقدت فرصها محليا، وهو ما يراه سياسيون ومراقبون، استطلعتهم «اليوم» في العراقولبنانوالأردن، محاولة لذر الرماد في العيون. الترويج عربيا بدأ من العاصمة الأردنية، التي سعى فيها رئيس التحالف الشيعي العراقي عمار الحكيم، إلى اقتناص موقف أردني داعم ل«التسوية التاريخية»، وهو ما تجنّبت عمّان الوقوع فيه، رغم اللقاءات الثلاثة التي عقدها. الحكيم، في لقاءاته العَمّانية، طاف برئيسي الوزراء د. هاني الملقي ومجلس الأعيان (مجلس الملك) فيصل الفايز، وانتهى بلقاء ليليّ مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. إعلام القصر بدا متحفظا، في بيان أصدره عقب اللقاء وتسلمت «اليوم» نسخة منه، ولم يأت على ذكر «التسوية التاريخية». البيان ذاته اكتفى ب«عبارات بروتوكولية» من قبيل أن لقاء الملك والضيف «استعرض مستجدات الأوضاع على الساحة العراقية»، واعتبار أن «أمن واستقرار وازدهار العراق مصلحة أردنية»، فضلا عن التأكيد على «دعم الأردن لجهود العراق في التصدي لمختلف التحديات التي تواجهه». الحكيم، وفق السفارة العراقية في عمّان، غادر إلى إيران، ومنها سيعود إلى العاصمة المصرية، وهو ما يمكن فهمه في سياق «السطوة الإيرانية» على القرار الوطني العراقي. ويرى رئيس المجلس الإسلامي العربي في لبنان السيد محمد علي الحسيني، وهو رجل دين شيعي عروبي، أن «السطوة الإيرانية على مجمل أركان القرار العراقي باتت واضحة، ولا لبس فيها، وهو ما تدركه مختلف الأطراف». ويجزم الحسيني، في حديث هاتفي مع «اليوم»، أن «العملية السياسية في العراق انتهت عمليا بسيطرة نظام ولاية الفقيه على كامل البلاد، وهو ما قاد مختلف الفاعلين، الإقليميين والدوليين، إلى البحث عن تغيير جذري في العراق». ويحيل هذا الواقع، وفق الحسيني، «التسوية التاريخية» إلى «أمر مستحيل التحقق، ولا سبيل له في ظل ولاية الفقيه الإيرانية»، ما يجعل «الانسحاب الإيراني مقدمة حتمية لأية تسوية وطنية في العراق». ويعتبر السيد الحسيني أن «التسوية التاريخية يجب أن تعيد العراق إلى حاضنته القومية، وبما يجعله ظهيرا وحليفا عربيا وليس مصدر تهديد وقاعدة إيرانية متقدمة في عمق المشرق العربي». وحول اشتراطات التسوية الحقيقية، يقول الحسيني بوجوب أن «تقيم العدالة الجنائية ضد من أجرم وأعمل القتل في الشعب العراقي بغض النظر عن طائفته». ويصف رئيس حركة التصحيح الوطني العراقية د. كامل الدليمي، وهو نائب سابق في البرلمان العراقي، التسوية المطروحة بأنها «إطار عام وفضفاض». ولفت د. الدليمي، في حديث ل«اليوم» عبر الهاتف من بغداد، الى أن «الأصل في التسوية التاريخية أن يبدي أصحاب السلطة روحا تشاركية، تعيد الاعتبار إلى مختلف القوى الوطنية والسياسية، وهو ما لم يقدمه التحالف الحاكم». ولا يجد د. الدليمي ضرورة لوجود رعاية دولية أو إقليمية لأي تسوية سياسية «طالما توافرت الإرادة السياسية لدى الفرقاء». وتدور مضامين «التسوية التاريخية»، التي يعرضها التحالف الحاكم، حول «رفض الحكم الدكتاتوري، والتفرد»، وتأكيد «الالتزام بمحاربة الإرهاب»، وتتمسك ب«إدانة سياسات حزب البعث (المنحل)»، وترفض الإبادة الجماعية، والإعدامات والاغتيالات، ودون أن تأتي على أطروحات لتسوية جذور الانقسام، والعمل على بناء العدالة وإعادة الحقوق، فضلا عن إبقائها على مجمل القوانين والأنظمة والقرارات التي اتخذت في ذروة العنف الطائفي. ويقف الأمين العام لمجلس العشائر العربية في العراق الشيخ يحيى السنبل مع أن «التسوية التاريخية»، التي يحملها الحكيم، تستند إلى «عقد تسوية بين أطراف العملية السياسية باعتبارهم ممثلين عن المكونات الطائفية والدينية في العراق، وهو ما ترفضه القوى السنية ذات الثقل». واعتبر الشيخ السنبل، في اتصال هاتفي مع «اليوم» من الأنبار (غرب العراق)، أن «القبول بالتسوية المطروحة هو عمليا قبول بالحكم الطائفي المقيت، دون أية مراعاة لمكونات الشعب العراقي القومية والمذهبية والدينية الأخرى». ويشكك الخبير والمحلل السياسي العراقي د. فاضل البدراني، عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد، في النوايا التي تقف خلف التسوية المطروحة، ويقول «مبادرة التسوية التاريخية لا قيمة لها، إذ ولدت ميتة لغياب النوايا الصادقة لدى التحالف الحاكم». وبين البدراني، في حديث هاتفي مع «اليوم» من بغداد، أن «قانون الحشد جاء بمثابة المسمار الأخير في نعش هذه التسوية». وحول المستقبل، يرى د. البدراني أن «العراق يتجه نحو المزيد من الشرذمة وغياب التوافق الوطني»، معتبرا أن «الحل للواقع الحالي يأتي بتدخل امريكي ضاغط وقادر على فرض تسوية متوازنة على مختلف الأطراف». ويشير رئيس مركز امية للبحوث والدراسات الإستراتيجية د. نبيل العتوم، الخبير في الشأن الإيراني في حديث ل«اليوم» من عمان، إلى «خطورة الخطوة التي اتخذها التحالف الحاكم بسنه قانون الحشد الشعبي، الذي مارس جملة كبيرة من الجرائم بحق المكونات العراقية غير الشيعية،». ويعتبر العتوم أن «شرعنة الحشد تعني عمليا أولا ميلاد ذراع إيرانية، مسلحة ورسمية، في العراق؛ كما أنها تعني- ثانيا- إفقاد أي تسوية وطنية، بمبادرة محلية أو خارجية، لجوهرها وتفريغها من مضمونها، وامتلاك القدرة على التلاعب بها وعرقلتها».