في الطريق من الدمام شمالا إلى (رأس الخير).. كل الذي عن اليمين يأخذك إلى زمن قريب جدا، كم مضى من السنين.. خمسون، ستون عاما، هذا هو عمق الزمن الذي مرت به رحلة الإعمار لهذه الأرض التي كانت صحاري جرداء، مع المطر تهتز ثم تقوم الحياة فيها لبضعة أشهر، ثم تعود الصحراء إلى حالة السكون الرائعة. ما نمر عليه الآن لا يعرف السكون، عمران لا ينقطع.. إنه الحراك الإنساني والتنموي الذي انطلق قبل ستين عاما، فعلى يمينك منشآت الطاقة العملاقة، المصفاة الكبرى لأرامكو في رأس تنورة، ثم تنتظرك محطة الكهرباء العملاقة في غزلان، ثم الجبيل الصناعية المتجددة بالمشاريع العملاقة، حاضرة الصناعة في المنطقة الشرقية، ثم مشاريع تحلية المياه الكبرى، حتى تصل إلى (رأس الخير) مدينة صناعة التعدين القادمة بكل ثقة، وهذه لها قصة أخرى يجب أن تروى. وماذا بعد؟ أنت على موعد مع حقل (منيفة)، وهو الإنجاز الهندسي الرائد الذي لا تفخر به أرامكو وحدها، بل كل سعودي يعتز بهذا الحقل المهيب، والذي تصل طاقته الانتاجية إلى مليون برميل يوميا، ويُقدم كواحد من المشاريع العظيمة التي حققتها أرامكو وقام بجهد كبير من القياديين والمهندسين والباحثين في مراكز دراساتها وطواقمها التنفيذية، فقد تغلبت على العوائق الهندسية للحفر في المياه الضحلة عبر إنشاء 22 جزيرة حجم الواحدة منها تعادل ثلاثة ملاعب كرة قدم أولمبية، وربطتها بطرق بطول 40 كلم. وما أنجزته أرامكو في (منيفة) يذكرنا بالإنجاز الكبير في حقل شيبة في وسط الرمال، ويذكرنا بما هو أهم: بناء الإنسان والمكان، فعبر أرامكو حققنا مشروعا وطنيا مستداما لبناء الإنسان المنتج الذي يخاطر بروحه ويبذل عرقه في حقول النفط الصحراوية، وفي المصافي، وفي منصات الحفر البحرية. والأهم في تجربة أرامكو نعرفه جيدا في مسيرة بناء الإنسان. لقد أوجدت البيئة الحاضنة لتفوق وتميز الموارد البشرية من جميع أنحاء المملكة، فعبر مسيرتها الطويلة، وضعت الكفاءة والابداع والتميز المعيار الأول والأسمى لاستقطاب الموارد البشرية، وهذا المعيار نجده حاضرا في مسيرة علي النعيمي، وقد رأينا الصورة التي دخلت كل بيت سعودي والتي بدا فيها النعيمي الصغير حاضنا - ظهرا- والده على البعير عندما جاء به من البدو ليضعه في حاضرة أرامكو. هذا الانجاز الذي يتحقق في الحقول والمصافي والمصانع، هو ثمرة استثمار الدولة في هذه الشركة العملاقة التي تحمل اسم بلادنا عاليا في أرض الله الواسعة. وحراك أرامكو المستمر في السبعين عاما الماضية، أضفنا له شركة عملاقة هي (سابك)، وقامت هذه الشركة لتقود حقبة الصناعات البتروكيماوية ولتكمل مشوار بناء الاقتصاد الوطني الذي بدأته أرامكو في صناعة النفط، وتواصل حقبته الثالثة الآن شركة (معادن) التي تقود قاطرة وصناعة التعدين المتعدية في منافعها وخيرها إلى المستقبل، إلى رصيد الأجيال القادمة. في كل ميل تقطعه إلى (رأس الخير) ثمة مسافات حضارية قطعتها بلادنا، فمنذ جاء الملك عبدالعزيز إلى هذه المنطقة ليضمها إلى مشروع الوحدة، كان الانجاز الأول الذي حققه، هو بناء الأمن والسلام والتعايش، فقد بدأ للأمن قصة في هذه المنطقة مازالت شواهدها حاضرة في ذاكرة بقايا الجيل الذي عاصر فترة التحول ورأى كيف حمى الملك عبدالعزيز مقومات الانتاج في الزراعة والصيد والتجارة، ليؤسس حقبة انفجار ثروة النفط التي تنشر الإعمار في المنطقة الشرقية وتجعلها موئل المشاريع العملاقة في الصناعة. لقد وضعنا مشروع الملك عبدالعزيز على مسار البناء، وهو المشروع الذي جعل الناس تقبل على الحياة لتنشغل بكل ما ينفعها بحثا عن مقومات العيش الكريم، وأبقى مبادئ الدولة وموروثها السياسي مهموما بحماية الناس اجتماعيا، ورعاية كرامتهم، وتحقيق العدل بينهم، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان يكرس مشروع الملك المؤسس في كل أعماله وقراراته وكلماته، وذروة اهتمامه الأمن، وفي كلمته للمواطنين في الأحساء أكد على منطلق مشروع الملك عبدالعزيز وهو الأمن، حيث قال:( إن الأمن في الأوطان من أجل النعم، فلا تنمية ولا علم ولا حضارة بدون أمن، وينبغي الاستمرار في تكاتف الجهود للمحافظة على هذه النعمة). والآن في المنطقة الشرقية، من ذاكرة الرواد وحياتهم ومن شواهد الحاضر، يبقى الاستقرار والأمن هو حامي ودافع الاستمرار بالبناء حماية للحاضر وللمستقبل، والحمدلله اننا جميعا نعمل لتكريس موجبات الأمن وحماية السلام الاجتماعي، وهذه مهمة وطنية مقدسة يبذل في سبيلها جميع رجال أمننا أرواحهم الغالية، ورحم الله شهداء الواجب، وحمى الله كل عين ساهرة لننام آمنين. ما أكثر قصص البناء والتعمير للإنسان والمكان التي يحفظها الزمن أو ترى بين أيدينا في المنطقة الشرقية.. ماذا نروي!