أفرزت التطورات المتسارعة والمتلاحقة التى تشهدها بيئة العلوم الإدارية اليوم العديد من الإرهاصات والأيديولوجيات التى تسعى إلى دراسة كافة التحديات التى يمكن أن تواجه المنظمات بكافة أنواعها والتى تهدد بقاءها أو استمرارها، وعندما نستقرئ الواقع ونحلله نجد أن هناك منظمات تستطيع أن تتجاوز تلك التحديات وتحافظ على بقائها واستمرارها وهناك البعض يتعرض للانهيار عند أدنى خطر يواجهها، وقد يرتبط الأمر هنا بالعديد من العوامل ومن أهمها عملية صنع القرار واتخاذه، ويصبح القرار هنا خطا حاسما فى بقاء المنظمة أو فنائها، إلا أنه بالتدقيق والتعمق فى الأمر نجد أن الأمر يتعلق أكثر بالقيادة المؤسسية، وهنا تستوقفني قضية هامة فى علم الإدارة، ألا وهى القادة ونعود مرة أخرى لطرح تساؤل جدلى هو: «هل القادة يولدون أم يصنعون؟.. جدلية إدارية تجدد ذاتها منذ قدم علم الإدارة، وهى جدلية محيرة ومتعددة من حيث وجهات النظر والنظريات المفسرة لها، حقيقة أن هناك قادة يولدون بالفطرة ويتمتعون بصفات وسمات وخصائص تؤهلهم ليصبحوا قادة مؤثرين وفى الأغلب نطلق عليهم القيادة الكارزمية، وهناك أمثلة عبر التاريخ لقادة وصفوا بأنهم قيادات كارزمية سواء على المستويين السياسى أو الاقتصادى أو حتى فى الجوانب العلمية، إلا أننى أؤمن بأن القيادة صناعة، تحتاج منا أن نحترفها ونعمل على إتقانها، فالموارد البشرية تعد أسمى عنصر فى المنظومة الإدارية فإذا أحسن تدريبه وصقله بالمهارات المؤهلة للقيادة مع استثمار قدراته الذاتية، يمكن أن نصنع قادة متميزين بالفعل، فصناعة القادة أصبحت مهنة احترافية لها متخصصون وفرق عمل خاصة تعمل فى هذا المجال، وتوجد اليوم العديد من الكتابات الأجنبية والعربية التي تعد صناعة القادة بؤرتها الرئيسية ومحور اهتمامها. إن عبارة «القادة يولدون ولا يصنعون» فقدت مصداقيتها مع تطور العلوم الإدارية لأن هناك قادة غيروا مجرى الحياة.. وبالنظر إلى حالهم نجد أن هؤلاء تعلموا وتدربوا وتم صقل مهاراتهم واستثمار قدراتهم وتنمية مواهبهم حتى أصبحوا بالفعل قادة مؤثرين، وما يؤكد هذا الطرح أن الكتابات الإدارية المعاصرة تشير إلى أن القيادة بمثابة عملية تربوية تتضمن آليات تدريبية ونظما تطبيقية تستهدف الاستثمار للمكنون البشرى وضبطه ودعمه لتنشئة قادة المستقبل، وعلى الرغم من أننا لا ننكر أن هناك أشخاصا قد يولدون بصفات مكتسبة فطرية، إلا أن الأصل أن القائد يربى ويصنع، فالكاريزما وحدها لا تصنع قائدا، بل إن التجارب والخبرات والتدريب ودعم القدرات وإكساب المهارات ومنح المعلومات والمعرفة تعتبر دعامات أساسية فى صناعة القادة. فالقائد يجب أن تكون لديه رؤية ثاقبة للأمور، قادرا على التأثير فى الآخرين، يتمتع بالمعرفة والقدرات الإدارية المتميزة، فالقيادة أسلوب حياة وارتقاء دائم، وهى عملية تعلم مستمر تصقل بالمواقف والخبرات والتجارب، ورغم أن نظرية السمات أشارت إلى أن القائد يولد بسمات تؤهله لأن يكون قائدا بالفطرة، فنحن نؤكد أن الفطرة هامة بالفعل ولكن إن لم تتم راعيتها وتنميتها وإكسابها الخبرات والمهارات فإنها سوف تضمر وتموت، مثل رعاية النبات فى الأرض إن لم تسقه وتسمده فإنه يحترق ويموت، فالقادة يصنعون، ولذا أسجل هنا أهمية رعاية الموارد البشرية منذ الصغر وما أكثر حاجتنا هذه الأيام إلى رعاية الشباب وتنمية المهارات القيادية لديهم فشباب اليوم هم قادة الغد وأمل الأمة، فصناعة القادة تتطلب طرح العديد من البرامج التنموية التي تستهدف تربية وتنشئة القيادة وصقلهم بالمعارف والمهارات اللازمة لنموهم وترسيخ مبادىء وأسس القيادة لديهم ويجب دعمهم من خلال بيوت الخبرة والهيئات الاستشارية التي تمنحهم خلاصات التجارب الناجحة والإرشادات الصائبة التي تهديهم في طريقهم وترسم لهم خطواتهم المستقبلية.