دار نقاش محموم في الصالونات الثقافية حول حدود الحرية. كثير منا يرغب في المزيد منها، ليس إيمانا بقيمتها، وتأثيرها الإيجابي على حياتنا، بقدر ما جرى تحويلها لوسيلة من وسائل التسلط، وازدراء الآخرين، والنيل من معتقداتهم. فهل يمكن اعتبار كل ملفوظ يخرج من فم الفرد بحق شخص أو معتقد، حرية تعبير، مهما كانت التبعات التي يخلّفها الوصف المطلق؟. إن المملكة التي نعيش في كنفها اليوم، ليست هي نفس الدولة التي تأسست قبل قرابة المائة عام. تضاعف عدد السكان، وتنوعت انتماءات المواطنين الفكرية، ولدينا تقاليد وعادات متنوعة بقدر تنوع الخلفيات القبلية والمذهبية والمناطقية التي يزخر بها البلد، كما تأثرت الساحة المحلية بإيديولوجيات سياسية بعد اكتشاف النفط، ودخول التعليم النظامي للبلد، جعلت من تسيد أو سيطرة لون فكري أو مذهبي واحد أمرا مستحيلا. بالأمس، خرجت صحيفة محلية، بعنوان غريب، تناول برنامجا جديدا أطلقته وزارة التعليم (حصانة)، وذلك لتحصين الطلاب من بعض المعتقدات الحديثة الخطرة على النشء، كالتغريبية والإلحادية والعلمانية والليبرالية. مع أن وزارة التعليم لم تكلف نفسها عناء شرح ماذا تعني هذه المصطلحات الكبيرة لطلاب المدارس، خصوصا، في ظل مناهج خالية تماما من الدراسات الاجتماعية والفلسفية التي تتبحر في مثل هذه القضايا الفكرية العميقة، والتي سال حبرٌ كثير في نقاشها، ويحتاج الطالب للمكوث في مكتبة متخصصة، من أجل هضمها، قبل أن يقرر موقفه النهائي منها. لقد كنت من المستبشرين بالوزير الجديد، الدكتور أحمد العيسى، فقد سبق لي الاطلاع على كتاباته حول التعليم في المملكة، لكن معاليه يبدو أن قناعته بضرورة تحرير التعليم من التلقين، لم تنعكس بعد على برامج الوزارة، فقد اكتفت الوزارة بإلغاء هذه المفاهيم الكبيرة، دون بذل جهد توضيح معناها للطلاب. إن هذا السلوك الذي مارسته الوزارة لا يعد فقط دعوة لأحادية الرأي، وبالتالي تنشئة أجيال، لا يمكنها خوض نقاش عقلاني، ولكنه يحرض الطلاب على «التكفير الفكري»، الذي هو في أصل التكفير الذي يقود الشباب نحو العنف، وعليه فإن التكفير الذي تشتكي منه المملكة الآن، ويسبب لأجهزتها الأمنية الأرق، نتيجة الاستغلال الذي يمارسه بعض «محتكري الحق»، لابد وأن ينتشي من مثل هذه الأطروحات التي تُجرّم أفكار الآخرين. في الأسبوع الماضي، جرّمت المحكمة الجزائية في مدينة عسير أحد خطباء الجمعة، بعد وصفه الممثل القدير ناصر القصبي ب»الزنديق»، وألفاظ أخرى نترفع عن كتابتها هنا، فضلا عن ذكرها أثناء تأدية صلاة يراد منها رضا الله، وهي سابقة تعد الأولى من نوعها في المملكة، إذ صدر حكم ابتدائي يقضي بسجن الخطيب 45 يوما. يعطي هذا الحكم الابتدائي مؤشرا بأن تكفير الناس على المنابر لن يمر دون عقاب، كما يجب ألا تكون هذه القضية الاستثناء الذي يثبت تساهل القضاء مع الدعاوى المرفوعة بحق التكفيريين والعنصريين، وأن يعود التفكير ليصبح وجهة نظر! قد يقول قائل، إن هناك تناقضًا في مثل هذا الطرح، ففي المقارنة بين القضيتين، انتصر الكاتب لقضية حرية الفكر على حساب أحادية الرأي، أما في القضية الثانية، فقد انتصر لتجريم التكفير، وهذا قد يفهم منه انتقائية في الموقف من حرية التعبير، إذا اعتبرنا التكفير مجرد رأي فقهي. إن تكفير المخالفين، ليس حرية تعبير؛ لأن له تبعات تتجاوز الوصف اللفظي، وقد تصل الى حد تعريض حياة الآخرين للخطر. لكن مشروع وزارة التعليم يشبه الباب الدوار، إذ أرادت الوزارة إخراج الطلاب من التكفير فإذا بها تعيدهم لفصل الإقصاء!