* يقول الدكتور عبدالرحمن السميط رحمه الله (1366 1434ه/ 1947-2013م)، وهو شخصية كويتية معروفة في الأعمال الإنسانية الإسلامية حينما سُئل عن كيفية تعامله مع الأطياف الأفريقية: «لو كنتُ سمحتُ لنفسي الدخول في الخلافات السياسية والمذهبية والفكرية التي بيننا نحن العرب والمسلمين لكنت قد حكمت على نفسي بالحصار في ميدان صغير جدا، وسأبقى طول عمري في خلافات داخل منطقة لا تعرف إلا الخلافات، وسأضرب لك مثالا: ففي شمال مدغشقر، يجهل المسلمون أمور دينهم تماما فكان المسلم هناك يصلي الجمعة في المسجد، ويصلي يوم الأحد في الكنيسة ويوم الاثنين يعبد شجرة، فسألت بعض المثقفين المسلمين عن سر ذلك فقال لي: لا ندري ما هو الحق ولذلك نعبد الثلاثة حتى لا نخسر شيئا! ثم يأتي بعض العرب- والحديث ما زال للدكتور السميط- إلى مدغشقر فلا يرون هذه المصيبة، وإنما يجادلون في قضية احتفال بعض المسلمين هناك بالمولد النبوي، فيثيرونها فتنة، ويتقاتل الناس وتسيل الدماء، ويتدخل البوليس فيحتل المساجد ويغلقها وتتدخل السفيرة الأمريكية وتكتب تقريرا تقول فيه: إن هؤلاء المسلمين هم من أتباع (بن لادن)، وأنا أعتقد يقينا أنهم ليسوا كذلك، وإنما هو اتخاذ الاتجاه الخاطئ بإثارة قضايا هامشية. نحن نسير في طريقنا بالدعوة الى الاسلام بعيدا عن مشاكل العرب وخلافاتهم، وستجد إن شاء الله استجابة طيبة» المصدر: كتاب مجلة الكويت السادس عشر، ص 20. هذا وجه مضيء لامع، واع، من وجوهنا النادرة نذر حياته كلها لعمل الخير بالقول والفعل في أصقاع مختلفة من الأرض، وبخاصة في أفريقيا، حيث تتكالب طوفانات المثلث الأسود: الجهل، والفقر، والمرض وما ينجم عنه من مآس تتضاعف كل دقيقة، وينهش الموت فيها بشكل دائم ويومي. وفي غمرة ما نحياه من ليل أسود لم يشرق فجره بعد، يحتار المرء في التفكير في تاريخه المشرق، وحاضره المظلم، فيتساءل مع من تساءل من قبل: هل نحن فعلا أحفاد أولئك الأماجد الذين صنعوا تاريخا ناصعا ورحلوا وجعلونا نتغنى بأمجادهم، أم أن ما ورثناه وقرأناه عنهم كان مجرد حكايا وأساطير، وأحاديث خيال وترهات جوفاء؟ يعني ليس في المعقول أن لا يبرز شيء من تلك الجينات الوراثية التي صنعت ذلك التاريخ لأي منا.. لا تقل لي إنك متشائم.. فالرجال والأعمال والأمجاد الحاضرة موجودة، سأقول لك: لا، ولا حتى أشباههم في ذلك. فإن خرج- على سبيل المثال- عبقري أو نابغة أو عالم من ديارنا أسرعوا ب «تطفيشه» إلى ديار الغرب هذا إذا لم يغتالوه. وإذا تفوق مبدع في ميدانه حاصروه وأحبطوه وهضموا حقه، واحتقروه.. * وإذا نبغ فنان أو مهندس أو طبيب وقدم مشروعه لخدمة وطنه وأمته.. استصغروه، وجلبوا مكانه «أجنبيا» أقل منه شأنا وعلما ودراية، وحتى إذا حاول أحد من هؤلاء السفر «والنفاذ بجلدِه» إلى مكان ما في أرض الله الواسعة ضيقوا عليه الخناق، وغير ذلك كثير، وحسبك من البئر قطرة.. كما يقال. هذا على المستوى الإسلامي العام، أما على المستوى الديني فحدث ولا حرج فالحال فيه «إن لم تكن معي فأنت ضدي» أي عدوي.. والقائمة مشتعلة وكل يكفر الكل، ويشتم ويُزندق الآخر، ويلعن رموز الآخر، ويجلب الكل للكل ما يُسفه رأيه، ويطرده من رحمة الله، وهذا العوار الأسود يزداد كل يوم، بين كل طوائف المسلمين، الذين ختم الله على قلوبهم بالسوء، بعد أن سلب منهم نعمة «خير أمة أخرجت للناس». أكتب هذا من حزن ودموع وحرقة وأنا أرى حال أمتنا الإسلامية من الصين إلى أسبانيا ممزقة كل ممزق ويقتلوننا باسم الدين، ولعل القراء سمعوا الكثير ممن يعبر عن آلامه في قوله إن القاتل حين يذبح المقتول يقول: الله أكبر، والمقتول يتوسل للقاتل بقوله: الله أكبر.. هل هذا هو نتاج سنوات قضيناها في العلم والدراسة والتثقيف والوعي؟ * إن هذا المقال لا يدعو إلى «الرجعية» بطبيعة الحال ولا إلى التفكير على طريقة القرون السالفة، ولا يدعو في الوقت نفسه إلى التخلي عن المحطات المضيئة التي أنارت جانبا من حياتنا في عهود سابقة قريبة، ولكنه يدعو إلى الأخذ من كل شيء بشيء، وبطرف من كل طرف.. * حسنا: ما رأيكم في عصر الشيخ محمد عبده والكواكبي وأحمد لطفي السيد وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدالكريم الخطابي وعبدالقادر الحسيني وأحمد زكي وعبدالعزيز الرشيد وابن باديس وعمر المختار وعبدالقادر الجزائري، وغيرهم، ألم يحاربوا المحتل، ألم يستشهدوا، ألم يكونوا علماء دين، ورجال فقه ورموز علم وأدب ومصلحين صالحين؟.. ماذا تقيمون أزمنتهم- بغض النظر عن الظروف السياسية والإقليمية المحيطة في أيامهم-.. لكن كان الناس في أمان وكانت القلوب عند بعضها، وكان الإبداع قائما والآداب والفنون مشتعلة والأخلاق عالية والمروءات وفيرة، والمحبة بين الناس متدفقة، والثقة بينهم عالية، لدرجة لا تحتاج إلى وثائق ولا كتاب.. فالقانون عندهم «كلمة رجال».. آه.. يتدحرج القلم إلى أعلى مناديا أيام الزمن الجميل، ووالله إنني أجزم أن تدين أغلب الناس وقتئذ كان أكثر من الآن، والتزامهم بتعاليم دينهم أصدق وأعمق ويطول الحديث.. ولا أجد له نهاية حتى الآن إلا أبياتا تداعت تحاكي الحال للشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي النجفي.. حين أرنو لسيرة الآباء ثم أرنو لسيرة الأبناء أجد الفرق شاسعا فأنادي كم مشينا بسرعةٍ للوراء..