كان هناك مرشحان على منصة المناظرة ليلة الأربعاء (فجر الخميس بتوقيت المنطقة)، وكان كلاهما عازماً على تدمير حملة دونالد ترامب الرئاسية. بدأت المناظرة بداية موفقة. بدأ ترامب الذي لاحت له فرصة أخيرة للحيلولة دون ضياع حملته الرئاسية المتداعية بتشخيص منطقي لمرشح اعتيادي للحزب الجمهوري موجهاً اتهامات فعالة لكلينتون إثر إخفاقاتها كعضو مجلس شيوخ وكوزيرة للخارجية. وكانت هيئته رئاسية وغايته راسخة وصوته جهورياً معسولاً. ثم بعد حوالي نصف ساعة، انجذب رغماً عنه إلى شخصيته المعتادة، وفي لحظة من الأرجح ألا تنمحي من الذاكرة بعد عام 2016م، رفض مرشح الحزب الجمهوري الالتزام بأبسط قاعدة على الإطلاق من قواعد الديمقراطية المؤسسية، ألا وهي الالتزام بنتيجة الانتخابات. اللحظات التاريخية بحق نادرة في ميدان السياسة، لكن هذه كانت صاعقة ربما بشَّرَت بنهاية الحملة الانتخابية الديناميكية والمهلهلة والمدمرة لذاتها لترامب، وصعود نجم أول مرشحة للحزب الديمقراطي طغى دوماً على دقتها وجاهزيتها خصمها الأكثر صخباً. وفيما يلي أبرز 5 نقاط مستخلصة من المناظرة الأخيرة التاريخية التي ربما تكون حاسمة لعام 2016م، وذلك بحسب تقرير أعده جلين ثراش، كبير المراسلين السياسيين وأحد أبرز الكُتّاب في مجلة «بولتيكو» الأمريكية: أولا: اقترف دونالد ترامب الخطأ الأكبر في حياته. كأغلب الأخطاء، لم يكن هذا الخطأ في واقع الأمر زلة بل كان تصريحاً صادقاً عن مشاعره الانتحارية. أخبر ترامب الحشود الغفيرة بأنه يؤمن بأن الانتخابات «مزورة»، بالرغم من أنه المرشح الأقل شهرة على الإطلاق في الذاكرة المعاصرة، وبرغم أن الدراسات الأخيرة أثبتت أن المعدل الفعلي للتلاعب في الأصوات نادر جداً ندرة ضربات الصواعق. هلك ترامب بسبب سؤال بسيط، سؤال لم يكن ليكون عقبة أمام مرشح متأهب ولو ظاهرياً. وبدلاً من الإجابة ببراعة، أخفق إخفاقاً بشعاً أشبه بحادث سيارة على يد سائقها أثناء محاولته التوقف في مرأبه الخاص. طرح مدير المناظرة كريس والاس السؤال التالي: هل ستدعم نتائج الانتخابات شأنك شأن غيرك من المرشحين الرئاسيين منذ قديم الأزل؟ أجاب ترامب: «سأنظر في الأمر عند ما تظهر النتائج. وسأجعلك تنتظر في ترقب». وتعالى لهاث الجمهور في قاعة المناظرة بجامعة لاس فيجاس. ما علة أهمية هذا السؤال؟ لقد منح الاستفتاء السريع التالي للمناظرة الذي أجرته شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية لهيلاري كلينتون سبقاً حاسماً - بنسبة 52% في مقابل 39% لترامب - وهي نسبة سيئة بالنسبة لشخص يسعى لانتصار مدوٍ، لكنها ليست بالنسبة القاتلة أيضاً. كل شخص عالي الحس في المؤسسة الإعلامية يشاهد المناظرة ولا يدفع له ترامب راتبه يعلم تمام العلم أن رفضه قبول نتائج الانتخابات (الذي بَشَّرَت به خدعة أخرى خلال الانتخابات الأولية) كان اللحظة الحاسمة في المناظرة، وربما حتى كان اللحظة الأهم في الحملة الانتخابية بأسرها. وذكرت وكالة الأنباء «أسوشيتدس برس» في تقرير لها: «رفض دونالد ترامب، مُهدداً ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية الأمريكية، الإقرار ليلة الأربعاء بما إذا كان سيقبل بنتائج انتخابات الشهر المقبل أم لا إذا خسر أمام هيلاري كلينتون. وقالت مرشحة الحزب الديمقراطي: إن تردد ترامب في الإجابة عن السؤال الخاص بهذه المسألة مثير للرعب». وأعرب ابن جينزبرغ محامي واشنطن الداهية والذي رسم الخطوط العريضة لفوز جورج دبليو بوش في إعادة إحصاء الأصوات بولاية فلوريدا عام 2000م عن الموقف على النحو التالي: «كانت هذه مناظرته الأفضل على الإطلاق، لكنها عديمة الأهمية». ثانيا: هيلاري كلينتون قدمت الأداء الأمثل لها في المناظرة في تاريخها المهني. في أسوأ حالاتها يمكن أن تشبه كلينتون إنساناً آلياً مبرمجاً في المناظرات (أتذكرون تعبيريْ «مُلَفَّق» و«بطيء التوزيع» في المناظرة الأولى؟). لكن صعود نجمها مؤخراً في الاستفتاءات حررها، بحسب تصريح مساعديها، رغم أسبوع كامل من التحضيرات الفاترة للمناظرة التي قال لي أحد مساعديها: إنها كانت «مصدر قلق» الليلة السابقة للمناظرة. لكن، لم يكن هناك داع لأن يقلقوا. لقد كانت كلينتون بسترتها وسروالها الأبيضيْن اللتين أطلقت عليهما آني كارني الكاتبة الصحفية في «بوليتيكو» «لباساً أقرب إلى شخصيتها» وسبق أن ارتدته خلال كلمتها الختامية بالمؤتمر الديمقراطي وخطاب قبولها ببروكلين في السابع من يونيو بعد أن فازت بالترشح للرئاسة، كانت واثقة ومسترخية ومتأهبة تمام التأهب. قالت كلينتون بنبرة أدنى من نبرتها العادية: «يعتقد دونالد أن التحقير من النساء يجعله يشعر بأنه أعظم منهن. فهو ينال من كرامتهن وقيمتهن الذاتية، ولا أعتقد أن هناك أي امرأة في أي مكان لا تعرف الشعور المترتب على سلوكه هذا. والآن أمسينا على دراية بالطريقة التي يفكر بها دونالد في النساء وما يقوله عنهن والطريقة التي يتصرف بها تجاههن. هذه هي هوية دونالد وجوهره، وأعتقد أن الأمر يرجع لنا جميعاً فيما يختص ببيان هويتنا وهوية بلدنا، وأنه من حقنا أن نعلنها بصوت عالٍ ونتحرى الدقة حيال مبتغانا من رئيسنا المقبل، وكيف نود أن نلم شمل بلدنا بحيث لا نجعل فئة تقف خصماً لفئة أخرى ونحتفي بدلاً من ذلك بتنوعنا، فنرفع من شأن الآخرين ومن معنوياتهم ونجعل بلدنا بلداً أفضل حتى من ذي قبل». لاحقاً أقر ترامب بكل ما قالته كلينتون إذ دعاها على نحو عارض ب «المرأة البشعة». ثالثا: على كريس والاس أن يمتهن هذه الوظيفة. كانت المناظرة الثانية التي عُقدت في مجلس مدينة سانت لويس في فترة سابقة من الشهر الحالي فضيحة قومية كارثية نظراً لاستراتيجية ترامب التي ارتكنت إلى استعراض ثلاثة من متهمي بيل كلينتون في قاعة المناظرة موحياً بأن كلينتون شيطانة وأنها تضمر «شراً في قلبها». وبدا أن والاس مضيف برنامج FOX News Sunday يروض ترامب الذي تعتمد دائرته الانتخابية على شبكة الأخبار اليمينية الهوى التماساً للأخبار والآراء. وأكد والاس على هيمنته في وقت مبكر من المناظرة حيث أسكت المرشحيْن كلما حاول أحدهما مقاطعة الآخر، وأسكت الجمهور أيضاً كلما علت أصواتهم أكثر من اللازم. لكن ميزة والاس الأبرز كانت إجادته السهلة واليسيرة للقضايا محل النقاش والتي لم تختلف عن براعة المرشحيْن، مما سمح له بالحفاظ على ركيزة النقاش على السياسة وإقصائه عن شخص المرشحيْن. رابعا:. كلينتون تتملص من الموقف العصيب. قبل المناظرة، رصدت التوقعات فوز كلينتون بنسبة 85% بحسب أغلب مواقع جمع الاستفتاءات الكبرى، وأي منافس أفضل كان من الممكن أن يجعل ليلة الأربعاء استفتاءً شعبياً حول براعته في الحكم وملاءمتها له. فقد كان ترامب - الذي تتداخل أفكاره وتصطدم الواحدة منها بالأخرى كالأطفال الذين يتعلمون المشي لأول مرة - عاجزاً عن الحفاظ على هجوم متجانس على نقاط ضعف كلينتون المتعددة. في كل يوم، وبانتظام عجيب، يرسل موقع «ويكيليكس» رسائل بريد إلكترونية داخلية خاصة بالحملة الانتخابية تميط اللثام عن كل التفاصيل المدمرة. آنت لحظة حساسة في المناظرة إذ سأل والاس كلينتون بصراحة عن واحد من أكثر التصريحات إثارة للجدل التي صرحت بها في واحدة من خطبها التي ألقتها بشارع المال: «في كلمة قمتِ بتوجيهها إلى بنك برازيلي وحصلت لقاءها على مبلغ قدره 225,000 دولار أمريكي، نما إلى علمنا من موقع ويكيليكس أنك قلتِ: [إنني أحلم بسوق مشتركة تمتد في نصف الكرة الأرضية تكون فيها التجارة حرة ولا تقيدها حدود]». راوغت كلينتون إذ قالت: (على نحو مريب نوعاً ما) إنها كانت تشير وحسب إلى تنمية الطاقة عبر الحدود، ثم سرعان ما هاجمت «ويكيليكس» وترامب واتهمتهما بالتآمر مع الاستخبارات الروسية. قال ترامب محتجاً وله كل الحق: «هذا حيد كبير عن حقيقة أنها تريد حدوداً مفتوحة. حسناً، كيف انتقل النقاش إلى بوتين؟». لكنه ما طفق بسرعة يدافع عن نفسه، ناكراً أية علاقة تربطه بالطاغية الروسي: («أنا لا أعرف بوتين. سبق أن صرح بتصريحات إيجابية عني. وإذا انسجمنا، فلا بأس بذلك») وقرر الخوض في شجار مع مسؤولي الاستخبارات الأمريكية الذين أشاروا إلى انخراط الكرملين في الخدع: (لم يكن لديها فكرة ما إذا كانت روسيا أم الصين أم غيرهما هو الفاعل). وهكذا انتهى نقاش تعليق كلينتون الغامض والمثير للريبة بشأن «الحدود المفتوحة». خامسا: «خداع النفس ليس باستراتيجية». بعد المناظرة نشر ترامب تغريدة على موقع «تويتر» تحوي نتائج استفتاءيْن موالييْن وغير علمييْن بالمرة: أحدهما من تقرير درادج Drudge Report والآخر من صحيفة «واشنطن تايمز» والتي تظهر أنه فاز بالمناظرة باكتساح.