استعرضنا في الجزء الاول من هذه الدراسة الاستقصائية التي اعدها ثلاثة باحثين من مركز كار في جامعة هارفرد المعني بالتحقق من تطبيق سياسة حقوق الانسان وانتهاكاتها (Carr Center for Human Rights Policy) ونشروها في العدد الاخير من مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs Magazine).. تعد الدراسة اول مراجعة محايدة للآثار التي ترتبت على استخدام امريكا التعذيب كأحد وسائل استخلاص المعلومات من المشتبهين بالارهاب، وخلصوا الى انه اضر بعلاقات امريكا الاستراتيجة وأمنها القومي، وانعكس سلبا على تعاونها مع حلفائها. وكان احد العوامل الاساسية وراء انتشار التطرف والاعمال العدائية في منطقة الشرق الاوسط ضد الولايات المتحدة، وجعل المواطن الامريكي في بلده في حالة خوف وعدم اطمئنان مستمرين. نواصل فيما يلي استعراض هذه الدراسة القيمة التي تُحمل بشكل غير مباشر الولايات المتحدة الاضطرابات التي اجتاحت العالم نتيجة عمليات الانتقام التي شنتها بعد 11 سبتمبر.. لقد دفعت الحكومات التي ساعدت وساهمت في عمليات الاعتقال والترحيل القسري والاستجواب التي نفذتها المخابرات الامريكية ثمنا اخلاقيا وقانونيا. فالطريقة التي عاملت بها الولايات المتحدة المشتبهين بالارهاب اثارت استفزاز المؤسسات العدلية في بلدان كثيرة وبصفة خاصة في الدول الغربية التي انحازت الى جانب واشنطن. تجاوزت المحاكم في كندا وبريطانيا مواقف حكوماتها التي لم تكن ترغب في تقويض التعاون الاستخباراتي بينها وبين الولايات المتحدة، وامرتها بكشف اي معلومات سرية تتعلق بمشاركتها في استجواب مواطنيها المحتجزين لدى امريكا. وتفيد المعلومات المتوافرة ان الحكومة البريطانية اجُبرت 2010 على دفع تعويضات كبيرة لعدد من ضحايا ما عرف بالتسليم الاستثنائي للمشتبهين الى الولايات المتحدة، وان التعويضات تمت سرا حتى لا تكشف علنا تورطها في عمليات التعذيب التي كانت ترتكب مصاحبة لاجراءات التحقيق والمحاكمات. بل ان المحكمة العليا الإسبانية، ألغت حكما بالسجن مدته ست سنوات على «حامد عبدالرحمن» الذي ادين بتهمة الارهاب امام المحكمة، لأن بعض الأدلة التي قدمتها النيابة العامة في القضية تم استخلاصها منه عندما كان في معتقل «جوانتانامو» فلم تقبلها المحكمة العليا وقضت بأنها يستحيل تفسيرها ناهيك عن تبريرها. وفي 2010 تمت تبرئة «أحمد خلفان جيلاني» من 284 تهمة من بين 285 اتهاما بالتآمر والقتل في التفجيرات الإرهابية، التي تعرضت لها سفارتا الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام 1998، بعد ان اتضح ان قاضيا اتحاديا أمريكيا كان يمنع محامي الدفاع استجواب الشاهد الرئيس الذي علمت بوجوده الحكومة أثناء التحقيق مع جيلاني عندما كان في زنزانة وكالة المخابرات الامريكية وقد احتج محاموه بأن ذلك التحقيق تم تحت التعذيب. خسرت الاصدقاء وجدت الدراسة ان المواقف احتدت في جميع أنحاء العالم بعد تسرب الانتهاكات التي ارتكبها الجنود الامريكيون في أبوغريب، وفي سجون وكالة المخابرات المركزية السرية، وفي خليج جوانتانامو، فضاعف ذلك الأضرار التي نتجت عن غزو العراق 2003. واتضح من استطلاع اجراه مركز «بي يو» 2006، أنه حتى بعد احتواء وجهات النظر المعارضة والمستهجنة للغزو ظل الناس بالأردن وباكستان وإسبانيا، وفي المملكة المتحدة وجميع حلفاء الولايات المتحدة يعبرون عن سخطهم تجاه الولايات المتحدة وما ارتكبته من انتهاكات في سجن أبوغريب وجوانتانامو وغيرها. دفعت الحكومات التي ساعدت او شاركت في عمليات الاعتقال والاستجواب ثمنا اخلاقيا وقانونيا باهظا، وباشر مسؤولون كنديون وأوروبيون التحقيق في تواطؤ وتورط حكومات بلادهم في تعذيب الولايات المتحدة للمعتقلين، فشمل ذلك استفتاءات شعبية شارك فيها البرلمان الاوروبي ومجلس اوروبا في كندا وألمانيا وايطاليا وإسبانيا، وفي المملكة المتحدة، ورفع ضحايا التعذيب قضايا أمام المحكمة الأوروبية ضد ايطاليا وليتوانيا ومقدونيا وبولندا ورومانيا لقبولها اقامة وكالة المخابرات المركزية سجونا سرية على أراضيها. وخرقت حكومات تلك الدول المادة (3) من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان، التي يحظر التعذيب بموجبها. في المقابل حكمت المحكمة الاوروبية عام 2012 ضد مقدونيا وطالبتها بدفع 60.000 يورو تعويضا عن الاضرار التي لحقت بخالد المصري، وهو مواطن ألماني من اصل لبناني، اختطفته الشرطة المقدونية وسلمته لوكالة المخابرات الامريكية، ثم حكمت بعد عامين ضد بولندا وامرتها بدفع مبلغ عشرة آلاف يورو ومائة وثلاثين ألف يورو على التوالي لأبي زبيدة وعبد الرحيم الناشري، اللذين كانا مشتبهين بالارهاب واحتجزتهما المخابرات الامريكية في ما كان يعرف ب «المواقع السوداء» في بولندا. وقضت على ايطاليا بدفع 115.000 يورو لرجل الدين المصري حسن مصطفى (ابوعمر) وزوجته نبيلة غالي. ولا تزال القضايا المرفوعة ضد ليتوانيا ورومانيا بانتظار الفصل فيها. لقد كان الدرس المستفاد من ردود الفعل السالبة هذه تلك الرسالة الواضحة التي تلقاها حلفاء الولايات المتحدة وهي ان التواطؤ له عواقبه ويجب دفع ثمنه. بنهاية فترة حكم إدارة بوش كانت مصداقية واشنطن الدولية قد بلغت ادنى مستوياتها، وبدا اقرب حلفائها غير واثقين فيها، فوفقا للرسائل السرية المتبادلة التي تم تسريبها: ان رئيس وزراء ايرلندا بيرتي ارون عبر في لقاء عام 2004 للسيناتورين الجمهوريين ماكين وليندسي جراهام عن مخاوفه من نقل الولايات المتحدة سجناء عبر بلاده دون علمها، رغم نفي مسؤولين امريكيين ذلك. وقال لماكين وجراهام: إنه لا يريد أن يبدو أحمق بعد دفاعه امام البرلمان عن استخدام الجيش الأمريكي أيرلندا نقطة عبور فقط بناء على تأكيدات الولايات المتحدة بأن المقاتلين الأعداء لم يتم نقلهم عبر مطار شانون الى جوانتانامو او اي مكان آخر في ايرلندا، ثم وجه لهما السؤال التالي: هل كنت على حق فيما قلته؟. ماكين اكتفى بالتعبير عن قلقه وتعهد بان ينقل اهتمامات رئيس الوزراء الى ادارة الرئيس بوش مؤكدا مدى اهمية «ألا تضبط الولايات المتحدة في اي وقت من الاوقات متورطة في الكذب على حليف وصديق مقرب اليها». ومع ذلك ما يظل مؤكدا ان العديد من الرحلات التي توقفت هناك في وقت لاحق التقطت بالفعل معتقلين ونقلتهم الى مكان آخر. كبار مسؤولي ادارة بوش رهن الحصار لقد اصبحت الولايات المتحدة نفسها هدفا لإجراءات قانونية أجنبية حيث باشرت النيابة العامة السويسرية عام 2005 تحقيقا جنائيا في استخدام الولايات المتحدة مجالها الجوي دون اذنها في رحلات غير عادية، ورفع مركز الحقوق الدستورية والمركز الاوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الانسان بين عامي 2004 و2009 قضايا في فرنسا وألمانيا وأسبانيا ضد «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع في عهد بوش حتى نهاية 2006 أحد اكبر مؤيدي ومنفذي غزو العراق، وعدد من كبار المسؤولين الامريكيين بتهمة ارتكاب جرائم في سجن أبو غريب ومعتقل جوانتانامو. ورفعت قضايا مماثلة ضد رامسفيلد في الأرجنتين 2005 وفي السويد 2007 ومازال الحبل على الجرار، فقد استدعت محكمة فرنسية هذا العام «جيفري ميلر» الجنرال الأمريكي الذي كان يدير سجن الاعتقال في خليج جوانتانامو، لاستجوابه في اطار التحقيق عن دوره في تعذيب ثلاثة مواطنين فرنسيين والذي لم يمثل امام المحكمة. صحيح انه لم تنته جميع القضايا الى ادانات رسمية ولكن بعضها تم الفصل فيه لصالح الضحايا، واجرت ايطاليا عام 2005 تحقيقا في خطف وكالة المخابرات الامريكية 2003 لرجل دين مسلم من ميلانو وقامت بترحيله، وانتهت الإجراءات الجنائية اللاحقة الى ادانة 23 مسؤولا امريكيا غيابيا، رفضت الولايات المتحدة تسليمهم ثم قيدت خوفا من تعرضهم للاعتقال حركتهم، ومع ذلك اعتقلت شرطة بنما في 2013 وبناء على طلب السلطات الايطالية احد المتورطين وهو رئيس مكتب المخابرات الامريكية السابق في ميلانو «روبرت سيلدون» لفترة وجيزة، وفي ابريل الماضي اعتقلت السلطات البرتغالية المسؤولة السابقة بوكالة المخابرات «سابرينا دي سوزا»، وكانت بين المدانين في تلك القضية وتجري الاستعدادات لترحيلها الى ايطاليا. وفي ذات الأمر، لا تزال تنقلات العديد من كبار المسؤولين السابقين في إدارة الرئيس بوش بما فيهم بوش نفسه ونائبه السابق ديك تشيني، ورامسفيلد، وجون يو مستشار الإدارة القانونية، محدودة خشية التعرض لمخاطر قانونية مماثلة اذا سافروا خارج بلادهم. لقد كانوا يقودون في يوم من الايام اقوى دولة في العالم لكنهم اليوم لا يستطيعون السفر الى اي بلد يمتلك القضاء فيها ولاية قانونية على جرائم الارهاب والتعذيب مثل فرنسا والمانيا واسبانيا وسويسرا، دون التعرض للاحتجاز. فقد قطع رامسفيلد مثلا زيارة إلى فرنسا عام 2007 بسبب هذه المخاوف كما يبدو، وألغى بوش رحلة الى سويسرا 2011 لنفس السبب، بل ان روسيا حظرت اكثر من مرة زيارة المسؤولين السابقين في ادارة بوش الى اراضيها بسبب مشاركتهم في «عمليات تعذيب كالتي ترتكب في القرون الوسطى». لقد ظلت السياسة الخارجية الامريكية تدعم تطبيق القانون الدولي والالتزام به وبحقوق الانسان طالما ان ذلك يعزز السلام والأمن وسيادة القانون في الخارج، مشجعة لنشر الديمقراطية، وسعت لتعميم القيم الامريكية وكسب التأييد لها، لكن ما ترتكبه من انتهاكات وتعذيب يقوض وبشكل واضح تلك الاهداف ويجعل الولايات المتحدة اقل قدرة على التأثير واقل أمنا.