تزامن مبدأ حصانة الدول من الولاية القضائية مع حاجة الدول الى التعامل مع بعضها البعض بشكل يتناسب مع استقرار العلاقات الدولية، وادى ذلك الى ظهور عدة مبادئ في القانون الدولي نالت احترام وامتثال الدول لها حتى اصبحت تلك المبادئ بمثابة عادة ملزمة لا تتردد اي دولة في الامتثال لها. وبالرغم من وجود فكرة الحصانة المطلقة للدول في فقه القانون الدولي، إلا انه منذ نشأة الاممالمتحدة عام 1945 ظهرت عدة نظريات تتبنى وضع قيود على حصانة الدول نتيجة انتشار التعاملات بين الافراد والشركات مع الدول التي ظهر منها نزاعات تتطلب البت فيها من محاكم يقع في نطاقها الجغرافي محل النزاع. تلك النزاعات بين الشركات والافراد مع بعض الدول التي لها انشطة تجارية دفع الدول لوضع استثناءات توضح نطاق حصانة الدول من ولاية القضاء للحيلولة دون تأثر التعاملات الدولية بتراكم النزاعات التي لم يتم البت فيها نتيجة مبدأ الحصانة من ولاية القضاء الذي يمنح الدول مركزا قانونيا افضل مقارنة بالشركات. وهذا ما جرى عليه العمل في كل الدول من حيث تمييز تصرفات جهة ادارية تابعة لدولة ما لتحديد نطاق خضوع ذلك التصرف لقانون عام مثل: القانون الاداري او قانون خاص مثل: القانون التجاري. واتفق غالبية فقهاء القانون على ان اي جهاز اداري تابع للدولة قد يتنازل اختياريا من تطبيق مبادئ القانون الاداري تجاه الخضوع لاحكام القانون الخاص من خلال ظهور جهة الادارة عند مباشرة تصرفاتها بمظهر الشخص العادي ما يجعل تلك التصرفات خاضعة لاختصاص القضاء العام الذي ينظر ما يطرأ من نزاع نتيجة تلك التصرفات، لذلك فإن مسألة خضوع جهة ادارية تابعة لاحدى الدول لقضاء الدولة نفسها يعتبر مشابها لمسألة خضوع جهة ادارية لقضاء دولة اخرى طالما كان تصرف جهة الادارة يتضمن نشاطا تجاريا او نشاطا غير حكومي يتشابه مع تصرف يقوم به الشخص العادي مثل: استئجار المباني او توريد السلع، وهو تعامل لا يرتبط بمسألة سيادية. ومن القيود التي تبنتها عدة دول في تشريعاتها استثناء انشطة محددة لا تعتبر نشاطا حكوميا او سياديا وتقوم بها الدول مثل المعاملات التجارية وعقود العمل. كما ان حصانة الدول لا تشمل دعاوى التعويض عن أضرار تلحق بالاشخاص والممتلكات، ولا تشمل حصانة الدول ايضا دعاوى ملكية عقار او حق حيازة واستعمال اصول عقارية او اصول منقولة طالما كانت تلك الاصول لاستخدامات غير مرتبطة بمقراتها الدبلوماسية. وبعدما تبنت عدة دول لعدة استثناءات مبدأ حصانة الدول، قامت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة بدراسة مسألة حصانات الدول من الولاية القضائية منذ عام 1977 وقدمت مسودة احكام مقترحة اولية عام 1991 الى ان صدر قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة بالموافقة على صيغة اتفاقية دولية في ديسمبر عام 2004 بمسمى: «اتفاقية حصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية». وقد انضمت السعودية لهذه الاتفاقية عام،2010 إلا ان هذه الاتفاقية لا تكون نافذة حسب المادة 30 من الاتفاقية الا بعد مصادقة 30 دولة على الانضمام اليها، حيث لم تصادق على هذه الاتفاقية إلا 18 دولة فقط مع انتظار مصادقة 19 دولة اخرى قامت فقط بالتوقيع على هذه الاتفاقية. ويختلف التوقيع عن المصادقة من ناحية ان التوقيع تقوم به جهة تنفيذية مثل: وزارة الخارجية، اما المصادقة فتكون عادة من مجلس تشريعي كالبرلمان. وبالرغم من عدم نفاذ احكام الاتفاقية حاليا، الا انها تعتبر مصدرا رئيسا لمعرفة مبادئ القانون الدولي، ومن الممكن التعويل عليها كمصدر مكمل للقوانين عند وجود فجوة في التشريعات التي يلجأ لها القضاء عند البحث عن احكام تساهم في البت في النزاع او مبادئ تفسر مصطلحات قانونية خصوصا ان لجنة القانون الدولي التابعة للامم المتحدة مازالت تبحث المعايير لتفسير احكام الاتفاقية، وطلبت من الدول الاعضاء بالاممالمتحدة تقديم مرئياتها قبل يناير 2018. وفي النظام القانوني للولايات المتحدةالامريكية يتحدد نطاق الحصانة للدول الاجنبية من خلال القضاء الامريكي الذي يجعل عبء اثبات وجود الحصانة على عاتق الدولة التي تكون طرفا في الخصومة القضائية، بينما يقع على عاتق الطرف الآخر اثبات وجود استثناء عن مبدأ حصانة الدول حسب قانون حصانة السيادة الاجنبية الصادر عام 1976، وهذا يتطلب التعرف على المعايير التي تقوم بها المحاكم الامريكية لتحديد نطاق حصانة الدول من ولاية القضاء الامريكي، وقد تبنى القضاء الامريكي مبدأ الحصانة المقيدة قبل صدور قانون حصانة السيادة الاجنبية في عام 1976. ومن معايير تحديد نطاق الحصانة للدول الاجنبية: تحديد نوعية التصرف الذي قامت به جهة ادارية تابعة لدولة ما ومدى قيامها بتصرف معين بمظهر الشخص العادي. كما يجب ان يندرج التصرف ضمن استثناءات منها: ان يكون التصرف تعاملا تجاريا او ان تتنازل الدولة عن حصانتها وتقبل الخضوع لولاية القضاء او ان تقبل شرط التحكيم في تعاملاتها، حيث يفسر ذلك بانه قبول لتنفيذ حكم التحكيم في القضاء او ان يكون النزاع على مصادرة الملكية بما يخالف القانون الدولي. ويتضح من خلال هذا التطور في مفهوم الحصانة السيادية للدول ان مشروع قانون «جاستا» لم يكن مفاجئا للعديد من المتابعين لتطور الرقابة القضائية على التصرفات الغير سيادية للدول، حيث ان ديباجة مشروع القانون اشارت الى محاولة معالجة بعض العقبات التي تواجه كل من يسعى للحماية القضائية طالما كان هنالك ضرر نتج عن تصرفات احدى الدول، لذلك يجب التعرف على النواحي الاجرائية والموضوعية لمشروع قانون «جاستا» لرسم تصور واضح يبدد القلق الذي تزامن مع محاولة اصدار هذا القانون. ومن الناحية الاجرائية فإن مشروع قانون «جاستا» لم يخضع للتصويت المدون والذي عادة ما يدون في سجل الكونغرس لمعرفة خيار كل عضو في مجلس النواب، ولكن قام النواب بتبني التصويت الشفوي الذي يدل على وجود احتمال كبير لتغير موقف اعضاء مجلس النواب عند قيام الرئيس الامريكي بممارسة حق نقض القانون «الفيتو» الذي يتطلب موافقة مدونة في سجل الكونغرس لثلثي اعضاء مجلسي النواب والشيوخ لتجاوز قرار الرئيس بنقض مشروع القانون. واشار البعض الى ان التصويت على مشروع القانون تزامن مع غياب غالبية اعضاء مجلس النواب الذي استغله رعاة مشروع القانون لتمريره، حيث انه لا يوجد حد ادنى للنصاب القانوني لعدد الاعضاء، لذلك يتم افتراض وجود نصاب قانوني في مجلس النواب إلا اذا قام احد الاعضاء بطلب التأكد من وجود نصاب قانوني. وحسب جدول اعمال مجلس الشيوخ للفترة من 15 الى 30 من الشهر الحالي فإن مشروع قانون «جاستا» لن يواجه عقبة اجرائية تمنع نفاذه حاليا، لأن احتمال عدم انعقاد جلسات مجلس الشيوخ خلال فترة العشر ايام التي يجب ان يبت فيها الرئيس بممارسة حق نقض القانون او الموافقة عليه هو غير وارد. ويعتبر عدم قيام مكتب الرئيس بارسال جواب الى الكونغرس خلال عشرة ايام بمثابة عدم ممارسة حق النقض ويصبح القانون نافذا، لكن حين لا يرسل مكتب الرئيس ردا مكتوبا عند تزامن ذلك مع عدم انعقاد جلسات لمجلس الشيوخ فإن ذلك يجعل مشروع القانون غير نافذ لتعذر ابلاغ الكونغرس بقرار الرئيس، حيث يشترط للابلاغ انعقاد جلسة لمجلس الشيوخ حسب الفقرة السابعة من المادة الاولى للدستور الامريكي. وتعتبر هذه ثغرة في الدستور الامريكي جعلت بعض مشاريع القوانين غير نافذة لتعذر انعقاد جلسات الكونغرس خلال فترة ممارسة الرئيس حق النقض، حيث بلغ عدد المرات التي تم فيها ممارسة حق النقض خلال عدم انعقاد جلسات الكونغرس ما يصل الى 1066 قرار نقض الذي يدل على اهمية ترتيب جدول جلسات انعقاد مجلسي الكونغرس لمعالجة هذه الثغرة الدستورية. وبالرغم من محاولات الوصول الى توافق لمعالجة هذه الثغرة الدستورية إلا ان اختلاف احكام المحكمة العليا في الولاياتالمتحدة واختلاف الوقائع التي دفعت عدة رؤساء لممارسة حق النقض في فترة غياب الكونغرس ادت الى ترك المسألة دون حل جذري. ويعتبر حق رئيس الولاياتالمتحدة بنقض مشروع القانون من اقوى الادوات في العملية التشريعية، ويتضح ذلك من خلال قيام الرؤساء السابقين باستخدام حق النقض ضد عدة قوانين بلغ عددها 2552 مشروع قانون ولم يستطع الكونغرس تجاوز الا 106 منها وهو ما يمثل 4 بالمائة من اجمالي مشاريع القوانين التي تم نقضها، لذلك من الراجح عدم قدرة تجاوز الكونغرس قرار النقض عند التصويت عليه مجددا. ومن الناحية الموضوعية فإن مشروع قانون «جاستا» يهدف الى توسيع نطاق الولاية القضائية للمحاكم الامريكية نتيجة عدم توقيع الولاياتالمتحدة اتفاقية «حصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائية» بالاضافة الى عدم نفاذها حاليا وهو الذي دفع رعاة مشروع قانون «جاستا» الى تبني تلك الاسباب كتبرير لعدم توافر الحماية القضائية للمتضررين. وقد اشار البعض الى ان مشروع قانون «جاستا» يخالف الفقرة التاسعة من المادة الاولى من الدستور الامريكي التي تمنع اصدار قانون جزائي بأثر رجعي، لكن ما اشار اليه البعض يعتبر قراءة غير موفقة، حيث ان نصوص مشروع قانون «جاستا» لا تحوي تجريما لافعال بأثر رجعي ولم يحو عقوبات ذات شق جنائي، لذلك لافائدة من اثارة هذا الدفع خصوصا ان نصوص مشروع قانون «جاستا» تطرقت فقط الى توسيع نطاق ولاية القضاء الامريكي على الدعاوى المدنية لتشمل الدول من خلال اضافة استثناء جديد على مبدأ حصانة الدول المحدد حسب قانون حصانة السيادة الاجنبية الصادر عام 1976، وبالتالي لاينطبق مبدأ عدم التجريم بأثر رجعي على نصوص مشروع قانون «جاستا» وهو ما اكدته احكام سابقة للمحكمة الامريكية العليا في ان الفقرة التاسعة من المادة الاولى من الدستور الامريكي لا تشمل المسائل المدنية. كما ان هناك سابقة قضائية للمحكمة العليا بتطبيق الاثر الرجعي لقبول نظر الدعوى لوقائع قبل صدور قانون حصانة السيادة الاجنبية 1976 على اساس ان ذلك القانون هو تعديل اجرائي وليس موضوعيا بمعنى انه يوسع نطاق الولاية القضائية ولا يدرج احكاما تعالج وقائع محددة. وقد يثير البعض مسألة عدم جواز نظر دعاوى سابقة صدرت فيها احكام ولكن ذلك لايعتبر دفعا مقبولا لأن بعض الاحكام السابقة تتعلق بعدم اختصاص المحاكم لنظر الدعوى ولم تبت في موضوع الدعوى مما يفتح امكانية سماع تلك الدعاوى من جديد. تجدر الاشارة الى ان مشروع قانون «جاستا» لم يذكر جواز نظر دعاوى سبق الفصل في موضوعها ولكن اقتصر الى الاشارة الى جواز نظر وقائع سابقة منذ سبتمبر 2001 او دعاوى منظورة خلال تاريخ نفاذ القانون. وقد يحاول البعض الاستناد الى الاتفاقية الدولية التي وقعت عليها بعض الدول لحمايتها من ولاية القضاء الامريكي، لكن على فرض نفاذ هذه الاتفاقية حاليا فإن المادة الرابعة من هذه الاتفاقية تنص على ان احكامها ليس لها اثر رجعي من تاريخ توقيع الدول عليها، لذلك لا يفيد الاستناد الى احكام الاتفاقية على وقائع سابقة لتاريخ توقيعها. اما فيما يتعلق بالمادة 1605 من التدوين الجامع للقانون الامريكي فإن منح المدعي العام حق طلب وقف نظر طلبات كشف الوثائق والبيانات فإنها مقيدة بوقائع لم يمر عليها اكثر من عشر سنوات إلا اذا ارتبطت بالتحقيق في قضايا اخرى تتضمن وقائع تخالف القانون الامريكي ما يجعل التعويل على ذلك امرا غير منتج في الدعوى. كما ان المادة 5 من مشروع قانون «جاستا» المتعلقة بطلب وقف نظر الدعوى ضد دولة اجنبية لوجود مفاوضات بحسن نية لتسوية النزاع فإنها تخضع لرقابة القضاء للتأكد من وجود جهود ملموسة تشير الى قرب التوصل الى تسوية مرضية لاطراف الخصومة القضائية. ومما سبق تتضح الحاجة الى التأني في استنتاج الاثار المترتبة على نفاذ مشروع قانون «جاستا» خصوصا ان احدى فقرات المادة 3 من «جاستا» تنص على انه لا ولاية للقضاء الامريكي على الدول فيما يتعلق بحالات الاهمال والاغفال والمسؤولية التقصيرية الذي يرجح صعوبة اثبات المسؤولية الجنائية ضد الدول إلا بشكل ظاهر لا يمكن تفاديه لأفعال مجرمة سابقا والموصوفة في نصوص القوانين الجنائية المتعارف عليها سابقا والمعلومة بالضرورة من المجتمع الدولي.