يطلق عليه التفكير الجمعي، وهو الحالة التي يؤمن بها مجتمع بأفكار معينة تتناقل جيلا بعد جيل في ذات المجتمع، هو نعت سلبي توصف به المجتمعات المتخلفة حضاريا، ولهذا ينعت به البعض المجتمعات العربية، وهو في رأيي وصف في غير محله، فكيف نجمع التفكير والتخلف في عين الحالة الموصوفة، فأما أن نقول إن مجتمعا مفكر - وهي صفة محمودة - أوصلته عملية تفكيره إلى هذه الأفكار التي اتفق عليها بعد ذلك، وهذا في ما أظن ليس له واقع حقيقي، فليس هناك مجتمع مر بهذه الحالة من التفكير الجماعي منذ نشأت المجتمعات، سواء أكانت مجتمعات متقدمة أم رجعية، لأن الأفكار عرفت بأنها نتاج أفراد، اقتنع بها مجتمع ما وأصبحت بعد ذلك ثقافة لذلك المجتمع، فالليبرالية على سبيل المثال لا نستطيع أن نقول عنها انها نتاج المجتمع الفرنسي أو الأوروبي بالعموم، وأنما هي نتاج فرد أو أفراد قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، اقتنعت بها مجتمعاتهم بعد صراع مرير مروا به، ومن هنا يبرز السؤال من أين أتينا إذا ببدعة التفكير الجمعي هذه؟، إن قيل يطلق هذا المصطلح من باب المجاز وليس من باب حقيقة الشيء، نقول لهم المجاز في اللغة العربية لا بد له من قرينة، أي لماذا استخدمنا المجاز هنا؟ أي بعنوان آخر لماذا لم نستخدم عنوان «الثقافة الجمعية» وهي الأقرب لتشخيص الحالة، لأن تشخيص الحالة جزء من أي حل يمكن أن يطرح اليوم أو في المستقبل، أما التفكير الجمعي فهو مصطلح إيجابي ان وجد في أي مجتمع، لأن التفكير عملية حيوية، وان كنت أفضل مصطلح «الناقل الجمعي» خصوصا وأن المجتمعات العربية منذ قرون دون مبالغة تعيش حالة المتلقي سواء أكان هذا التلقي لعلوم الماضين أو للحضارة الغربية الحديثة، فنحن نتأثر دون أن يكون لنا تأثير في حضارة اليوم، بل كل ما نحمله من ثقافة لم يجعلنا نتحرك في طريق البناء الحضاري خطوة إلى الأمام، وعملية النقل الجمعي هذه تتساوى بها النخبة مع باقي شرائح المجتمع، والفرق قد لا يتعدى النسبة بينهما، وهذا في ما أظن الذي جعل المثقف الليبرالي من يحمل الفكرة ونقيضها لأنه ناقل لأفكار عديدة، وهذا أمر خطير لأنه قد يضع ذلك الليبرالي في خانة النفاق لأنك تجده يتنقل من فكرة إلى فكرة نقيضه، لماذا؟. لأنه ما هو إلا وعاء جامع للأفكار وليس مولد أفكار، فهو أشبه بمن ينتقي لكل ظرف مفرداته من هذا الوعاء، خذ بعض مثقفي الحداثة على سبيل المثال لا الحصر وكيف تجده يتنقل من اليسار إلى اليمين، فالوعاء الذي يغترف منه يحمل ذات المفردات التي سبق أن اتخذ موقفا مناهضا منها، لهذا تجده يستعيدها بطريقة دراماتيكية، تحدث علامة استفهام كبرى عن ماهية دور ذلك المثقف المتنقل بين الأفكار المتضادة بصورة سريعة جدا. أتذكر أنني واجهت مثقفا من هذا النموذج ودارت بيني وبينه حلقة نقاش حول تناقض بعض أفكاره، وحينما كنت أناقشه على تناقضه هذا، كان يدافع عنه وكأنه وجهة نظر يؤمن بها ومنسجمة مع كونه مثقفا ليبراليا.