الأصل في كل تنازع الرد فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله والرضا بهما، ومهما عظمت الفتنة بين المؤمنين فإن الأخوة في الدين باقية وترك الاقتتال في الفتنة هو الصواب، فإن وقع اقتتال بين فئتين من المؤمنين كان الاصلاح بينهما واجبا، فإن بغت إحداهما على الأخرى وجبت مقاتلة الفئة الباغية حتى تعود إلى أمر الله، ثم يصلح بينهما بالعدل، وهذا أصل محكم عملا بقول الله تعالى: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون». وقد قدمنا أن عليًا وطائفته كانوا أولى بالحق من معاوية وطائفته، وأن ترك القتال من الفريقين كان هو الصواب لما فيه من حقن دماء المسلمين. أما وقد مضى الكتاب بما وقع بينهما من قتال فإن ذلك لا يخرجهما عن الايمان والأخوة في الدين، وهم في ذلك الأمر على حالين إما أن يكونوا متأوّلين أن الحقَّ معهم وهؤلاء مغفور لهم الخطأ في اجتهادهم وهذا الظن بهم جميعا، وإما أنهم متعمدون البغي فهم عصاة وهذا أسوأ الحالين، وهؤلاء أيضا يرجى لهم المغفرة مع عصيانهم بما لهم من منزلة الصحبة فضلا عن الاستغفار والتوبة أو غير ذلك من أسباب المغفرة. فلو افترضنا أسوأ الحالين وهو أن الذين قاتلوا عليًا عصاة وليسوا بمجتهدين متأولين لم يكن ذلك مخرجا لهم عن الايمان، لأن الله تعالى وصفهم بالإيمان واعتبرهم إخوة رغم اقتتالهم وما وقع منهم من معصية يرجى لهم المغفرة بمنزلة الصحبة فضلا عما لهم من استغفار وتوبة وأعمال وفضل، فكيف إذا قدرنا حسن الظن فيهم بأنهم اجتهدوا متأولين أنهم على الحق وهذا الأقرب، إن أسوأ الحالين يقتضي منا الامساك عما شجر بينهم والترضي عنهم والاستغفار لهم. ذكر ابن كثير في البداية أن المسور بن مخرمة وفد على معاوية قال: «فلمّا دخلت عليه فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟ قال قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، فقال: لتكلِّمني بذات نفسك، قال: فلم أدع شيئاَ أعيبه عليه إلا أخبرته به، فقال: لا أتبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهالك إن لم يغفرها الله لك؟ قال: قلت: نعم، إن لي ذنوباً إن لم يغفرها هلكت بسببها، قال: فما الذي يجعلك أحقّ بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوَ الله لما إلي من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس والجهاد في سبيل الله والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات، والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه، قال: ففكّرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خَصَمَني، قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير». والظن بمعاوية ومن معه أنهم متأولون مجتهدون مع كونهم الفئة الباغية؟ لذلك يقول ابن كثير: «معاوية معذور عند جمهور العلماء سلفاً وخلفا». قال ابن تيمية في المنهاج: والصّحابة الذين لم يقاتلوا معه كانوا يعتقدون أنّ ترك القتال خير من القتال، أو أنه معصية فلم يجب عليهم موافقته في ذلك، والذين قاتلوه لا يخلو إما أن يكونوا عصاةً أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة، وقد سماهم الله إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع الاقتتال بينهم والبغي من بعضهم على بعض، فمن قاتل علياً إن كان باغياً فلا يخرج من الإيمان، وإن كان البغي بتأويلٍ كان صاحبه مجتهدا.