ورد في وثيقة المدينة التي أصدرها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) عندما وصل المدينة بند يقول (وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه)، ويعني أنه إذا ما أجرم شخص من طائفة ما تعيش مع المسلمين، فإنه يحاسب وحده دون بقية أبناء طائفته، فلا يؤخذ الكل بجريرة شخص. وهذا البند يعطينا درسا هاما في التعايش، كما يعطي غير المسلمين أيضا دروسا في التعامل مع الأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، وتعاني بين فترة وأخرى من ردود الفعل الرسمية والشعبية التي تحصل بعد العمليات الإرهابية هناك (من مضايقات أو اعتقالات أو إغلاق مساجد) رغم أنها تنفذ من قبل أفراد، لكن ردود الأفعال هذه (في بعض الأحيان) تشمل جميع المسلمين دون تمييز. ويعتبر بند (وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه) واحدا من بين أكثر من خمسين بندا مثل دستورا لمجتمع المدينة، يعزز حالة التسامح والتعايش والمحبة والإخاء بين أبنائه ودون أن يقوم بإلغاء وقائع الأمور والحالة القائمة فيه. فالمدينة التي كان يعيش فيها المشرك والمنافق واليهودي إلى جانب المسلم، لم يتم طرد المخالفين فيها ولم يتم إجبارهم على الدخول في الإسلام على الرغم من قدرة المسلمين على ذلك في فترات عديدة. ويعد التوقيع على صحيفة المدينة مع غير المسلمين ومنهم يهود المدينة (وهي أول وثيقة توقعها الدولة الإسلامية مع طائفة أخرى غير مسلمة) نموذجا يؤسس للتعايش السلمي مع الآخر، ويقوم بضبط إيقاع العلاقة بين مختلف ديانات مجتمع يثرب بما يضمن جميع حقوقهم المدنية. وتضمن الصحيفة الحرية الدينية لليهود دون إجبارهم على ترك دينهم كما تنص على ذلك الفقرة التي تقول (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم)، وهو ما يضمن لهم الحرية العقائدية وحرية التعبير عن آرائهم ودون أن يؤثر ذلك على حريتهم المالية (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم). لكن في مقابل ذلك هناك تأكيد على الدفاع عن الوطن الكبير وهو مجتمع المدينة وذلك في ظل المواطنة الحقيقية، وهو دفاع بكل المفردات ماليا وعسكريا (وإن بينهم النصر على مَنْ حارب أهل هذه الصحيفة)، (وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم)، (وأن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)، وعدم مساعدة أو دعم قريش في أي نشاط معاد مهما كان. وبهذه البنود استطاعت الصحيفة أن تذيب الفوارق بين المسلمين وغيرهم من مواطني المدينة، وتعزز من حالة التعايش بينهم، وأن تصهرهم في بوتقة واحدة هي بوتقة المواطنة، وهي الميزان الدقيق للفروقات بين من يعيش تحت كنف الدولة الإسلامية التي لا تشترط على الآخر ترك موقعه الأيديولوجي مهما كان شرط احترامه لضوابط وقوانين الكيان الإسلامي.