جاءت الدعوة التي اطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله للحوار بين اتباع الاديان وما يتبع ذلك من حوار بين الثقافات والحضارات المختلفة في هذا العالم، جاءت تعبيراً عن رغبة صادقة من قائد مخلص حفي بوطنه وشعبه وامته والانسانية جمعاء، وهذه الدعوة هي تفعيل لاحدى القيم الإسلامية الكبيرة التي رسخها الإسلام منذ بزوغ فجره حيث ان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت بالحوار مع الآخرين، بل إن الحوار سنة من سنن الله في الكون وناموساً من نواميس الوجود، لا يمكن تعطيله أو تجاهله، ونحن إذ نحرص على الحوار في هذا الوقت فإنما نسير وفق منهجنا الإسلامي الصحيح، وسأخص الحديث في هذا المقال عن أنموذج من نماذج الحوار، وفي نفس الوقت ثمرة من ثمرات في أفضل العصور الإسلامية وهو العصر النبوي، وهذا الانموذج هو ما يسمى بصحيفة أو وثيقة المدينة وسبق أن قدمت في دراسة سابقة عرضاً متكاملاً عن هذه الصحيفة توثيقاً وتاريخياً وتخريجاً ودراسة قانونية دستورية، وسوف نعرض هنا كيف ان هذه الصحيفة لم تكن فقط أنموذجاً للحوار الراقي بل حولت الحوار واقعاً مطبقاً على الأرض، ولكن يحسن بنا في البداية أن نعرف هذه الصحيفة ونبين مصداقيتها ومن ثم نتحدث عن مدلولاتها. ما هي هذه الصحيفة: بعد ان هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة كان من اول ما عمله ان بادر بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار ووادع اليهود وكتب في ذلك وثيقة بين سكان الدولة الجديدة تسمى صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة واعتبرها بعض الباحثين دستوراً للدولة في ذلك العهد فهي بلا شك وثيقة دستورية بالغة الأهمية بما احتوته من تنظيمات عادة ما تكون الدولة الناشئة في حاجة لها، إضافة الى تميزها بصياغة قانونية شاملة ودقيقة، لا مجال للاختلاف حول مفهومها وتطبيقها، وتعد هذه الوثيقة أهم واقعة دستورية في العهد النبوي، وسبق أن اوردتها بنصها المطول عن ابن اسحق في الدراسة السابقة مفصلة في بنود بلغت تسعة وخمسين بنداً وقمت بتخريجها وتنفيذ الاقوال حولها، وأرى من المهم أن نعيد عرضها هنا ليعرف الناس ما هي هذه الصحيفة وما مصداقيتها ثم نعرج على أهم مدلولاتها. أ - نص الوثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم: 1- هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. 2- انهم أمة واحدة من دون الناس. 3- المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4- وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الألى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين. 5- وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين. 6- وبنو جُشَم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7- وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9- وبنو النبَّيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10- وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11- وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم ان يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 12- وان لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13- وان المؤمنين المتقين على من بغي منهم او ابتغى دسيعة ظلم أو اثم او عدوان او فساد بين المؤمنين وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد احدهم. 14- ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا يَنصُر كافراً على مؤمن. 15- وان ذمة الله واحدة، يجير عليهم ادناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي بعض، دون الناس. 16- وانه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والاسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. 17- وإن سِلءم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 18- وان كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً. 19- وان المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. 21- وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. 22- وإنه من اعتبط مؤمناً قتلا عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 23- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف. 24- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده الى الله عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم. 25- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. 26- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ، إلا نفسه وأهل بيته. 27- وإن ليهود بني النجار مثل ماليهود بني عوف. 28- وإن ليهود بني الحارث مثل ماليهود بني عوف. 29- وإن ليهود بني ساعدة مثل ماليهود بني عوف. 30- وإن ليهود بني جشم مثل ماليهود بني عوف. 31- وإن ليهود بني الأوس مثل ماليهود بني عوف. 32- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ماليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 33- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. 34- وإن لبني الشطبية مثل ماليهود بني عوف. 35- وإن البر دون الإثم. 36- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. 37- وإن بطانة يهود كأنفسهم. 38- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم. 39- وإنه لا ينحجز على ثار جرح. 40- وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم. 41- وإن الله على أبر هذا. 42- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. 43- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. 44- وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. 45- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. 46- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 47- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 48- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 49- وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله عز وجل، والى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 51- وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 52- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 53- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه. 54- وإنهم اذا دعوا الى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين - إلا من حارب في الدين - على كل إناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. 55- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. 56- وإن البرد دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه. 57- وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 58- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم او أثم. 59- وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى نص الوثيقة. ب- تخريج الوثيقة: وردت هذه الوثيقة بهذا النص المطول عن ابن اسحاق مرسلة، كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية، وابن هشام في السيرة، وابن اسحاق هو أول من أورد نص الوثيقة كاملاً، وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الوثيقة في تاريخه بهذا الإسناد، حدثنا أحمد بن خباب ابو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا كثير من عبدالله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه، أي بنحو ما أورد ابن اسحاق. ويبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة، كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو: حدثني يحى بن عبدالله بن بكير وعبدالله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب وسرده. كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضاً. هذه هي الطرق التي وردت بها الوثيقة بنصها الكامل، وهي متطابقة إلى حد كبير سوى بعض التقديم والتأخير أو اختلاف بعض العبارات مما لا يؤثر على مضمونها. ويذكر أحد الباحثين أن الوثيقة موضوعة، وذلك لعدم ورودها في كتب الفقه والحديث الصحيح على الرغم من أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحق دون إسناد معتمداً على رواية كثير المزني حاذفاً إسناده، وقد نقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبدالله روى هذه عن أبيه عن جده وقد ذكر ابن حبان أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب، وسبب الحكم على الوثيقة بالوضع هو تصور أنه لم يروها غير ابن إسحاق، وأنه لم يعثر على إسناد لها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة من طريق كثير المزني. ولكن أبا عبيد القاسم بن سلام أوردها من طريق الزهري، وهي طريق لا صلة لها بكثير هذا، ونظراً لكون ابن إسحق من أبرز تلاميذ الزهري، فإن ثمة احتمالاً كبيراً أن يكون قد أوردها من طريقه، ثم كون كتب الحديث لم ترو نص الوثيقة كاملاً لا يعني عدم صحتها، فكتب الحديث أوردت مقتطفات كثيرة منها تشمل جزءاً كبيراً منها بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص من الأحاديث الصحيحة، وقد احتج بها الفقهاء وبنو عليها الأحكام، كما أن بعضها ورد في مسند أحمد، وسنن أبي داود وابن ماجة والترمذي بطرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة ومن ذلك ما يلي: عن علي رضي الله عنه لما سئل هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء بعد القرآن، قال: (لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عز وجل رجلاً في القرآن، أو ما في الصحيفة، فقلت: وما في الصحيفة، قال: العقل، وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر)، قال علي رضي الله عنه: (ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خاصة دون الناس، إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة قال: فإذا فيها من أحدث حدثاً أو أوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، قال: وإذا فيها إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني أحرِّم المدينة حرامٌ ما بين حَرَّتُيها، وحماها كله، لا يختلى خلالها، ولا يُنَفَّرُ صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يُعلَّف رجلٌ بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال، قال: وإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهد في عهده). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار (أن يعقلوا معاقلهم وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين). وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: (كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله، ثم إنه كتب أنه لا يحل أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه، قال روح: يتولى). وقال رافع بن خديجة رضي الله عنه قال: (إن مكة إن تكن حرماً فإن المدينة حَرَّمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتوبٌ عندنا في أديم خولاني). عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (.. ثم نظر إلى المدينة فقال اللهم إني إحرم ما بين لابتيها بمثل ما حَرّم إبراهيم مكة..). وعن علي رضي الله عنه قال: (ما عندنا كتابٌ نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فقال فيها الجراحات، وأسنان الإبل، والمدينة حَرَمٌ ما بين عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثاً أو أوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك، وذمة المسلمين واحدةٌ فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك. وعن علي رضي الله عنه قال: (من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة) قال: (وصحيفةٌ معلقةٌ في قراب سيفه) فقد كذب، فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً). وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة قتل كعب بن الأشرف، وقال في آخر الحديث: (.. ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، ينتهون إلى ما فيه، فكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة). وعن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس: (ابلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ فقال: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري). وفي رواية قال: (سمعت أنس بن مالك يقول: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاحلف في الإسلام؟ فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، مرتين أو ثلاثا). وذكر ابن القيمة رحمه الله: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح اليهود وكتب بينهم وبينه كتاب آمن)، وقال ابن حجر: وذكر ابن اسحق أن النبي صلى الله عليه وسلم (وادع اليهود لما قدم المدينة، وامتنعوا من اتباعه، فكتب بينهم كتابا). وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة: (.. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود، الذين كانوا بها موادعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جزية، وهذا مشهور عند أهل العلم بمنزلة التواتر بينهم، قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفاً من أهل العلم بالسير أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية، وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكانوا (بنو قينقاع وبنو النضير) حلفاء الخزرج، وكانوا (قريظة) حلفاء الأوس، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى انه عاهد اليهود أن يعينوه إذا حارب، ثم نقض العهد بنو قينقاع، ثم النضير، ثم قريظة. قال محمد بن إسحق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أول ما قدم المدينة كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليه وشرط لهم. قال بن إسحق حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق قال: (أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقروناً بكتاب الصدقة الذي كتب للعمال)، ثم ذكر نحو نص الوثيقة التي نحن بصددها الآن، ثم قال: (وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم) ثم استشهد بحديث جابر بن عبدالله الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كتب على كل بطن عقولة والذي ذكرناه سابقاً. ثم قال: "فكل من أقام بالمدينة ومخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا، ثم بين أن ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين، ولم يكن أحد من اليهود إلا وله حلف إما مع الأوس أو مع بطون الخزرج، وكان بنو قينقاع وهم المجاورون للمدينة رهط عبدالله بن سلام حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط البطن الذي بدئ بهم في هذه الصحيفة). وبذلك يتبين أن القول بأن الوثيقة موضوعة مجازفة وذلك للأسباب الآتية: 1- ثبوت المحالفة بين المهاجرين والأنصار، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. 2- ثبوت موادعة اليهود، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. 3- أن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في اكسابها القوة. 4- أن الزهري علم كبير من أعلام الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية. 5- أن أسلوب الوثيقة يدل على أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة وغير معقدة، وفيها كلمات وتعابير كانت مألوفة في العهد النبوي. 6- أنه ليس في الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً، أو جماعة، أو أي قرينة يمكن القول معها بأنها مزورة. 7- التشابه الكبير بين أسلوبها، وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقاً آخر. 8- أن الأحكام المستنتجة من الوثيقة يمكن استنتاجها من عموميات النصوص الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد التي ذكرنا طرفاً منها. ج) مدلولات الوثيقة: وقد احتوت هذه الوثيقة على عدة أحكام دستورية إلا أنها كذلك لها مدلولات مهمة في موضوع الحوار أهمها مايلي: 1- تعتبر الوثيقة أنموذجاً لثقافة التسامح والعيش بسلام وهي خير مثال للواقع العملي للحوار بتأكيدها على المصالح المشتركة بين كل الأطراف. 2- الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية، وأن شعبها يتكون من: مهاجري مكة وأنصار المدينة، مضافاً إليهم كل من أبدى استعداداً للتبعية لهذه الوحدة، وخضع لقيادة دولتنا من الأقليات الأخرى القاطنة المدينة كما في الفقرة (1)، والفقرة (2)، وفي هذا ترسيخ لمبدأ الحوار الداخلي بين أبناء الوطن الواحد بمختلف طوائفه. 3- نصت الوثيقة على مبدأ الانضمام الى المعاهدة بعد توقيعها، وهو مبدأ دستوري مهم، ومازال العمل يجري به إلى يومنا هذا، ولعلها أول وثيقة في التاريخ تقر هذا المبدأ كما في الفقرة (1) والفقرة (17). 4- نصت الوثيقة على مواد في التكافل الاجتماعي بين أفراد الدولة، كما في الفقرات من (3) الى (13). 5- نصت الوثيقة على إقامة العدل وتنظيم القضاء، ونقله من الأفراد والعشيرة الى الدولة دون محاباة، ودون السماح لأحد بالتدخل وتعطيل القانون كما في الفقرة (14). 6- قررت الوثيقة مبدأ شخصية العقاب كما في الفقرة (46) والفقرة (56). 7- أوردت الوثيقة نصوصاً في بيان مركز الأقليات الدينية، كما في الفقرات (17)، (26)، (27)، (43)، (44)، (53)، وفي هذا تأصيل لمبدأ الحوار بين طوائف المجتمع المختلفة بحفظ حقوقهم ومعرفة واجباتهم وهذا أمر مهم لينطلق الحوار على أساس التكافؤ والاحترام. 8- أوردت الوثيقة نصوصاً في بيان الحقوق، كحق الحياة، كما في الفقرة (23)، وحق الملكية، كما في الفقرة (58)، وحق الأمن والمسكن، والتنقل، كما في الفقرتين (47)، (58). 9- أوردت الوثيقة نصوصاً في بيان الحريات والحقوق كحق احترام عقيدة الآخرين، وعدم الإكراه في الدين، كما في الفقرة (27)، وبالتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في الفقرة (45). 10- حددت الوثيقة أساس المواطنة في الدولة الناشئة، وهو الإسلام، فأحلت الرابطة الدينية بدلاً من الرابطة القبلية، حيث نصت الفقرة (2) من الوثيقة على أن المسلمين أمة من دون الناس، وليس معنى ذلك حصر المواطنة في المسلمين وحدهم، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وأوضحت حقوقهم وواجباتهم، كما في الفقرات من (27) الى (41). 11- عينت الوثيقة أن المرجع عند الاختلاف رئيس الدولة، كما في الفقرة (25) والفقرة (39) والفقرة (50) بمعنى أن الوثيقة حددت سلطة تفسير النصوص. 12- قررت الوثيقة مبدأ المساواة كما في الفقرات (16)، (18)، (20)، (53)، (54)، فالناس سواء في الحقوق والواجبات. 13- نصت الوثيقة على عدم جواز إبرام الصلح المنفرد مع أعداء الأمة، كما في الفقرة رقم (18). 14- نصت الوثيقة على مبادئ غير سياسية أو غير دستورية، أصلاً، وذلك لإعطائها أهمية ومكانة، ولإلزام أطراف هذه الوثيقة بالنزول على حكمها، وذلك لإعطائها سمواً ومكانة ليست لأحكام القانون العادي، ولمنحها شيئاً من الثبات، وذلك لأهميتها حين وضع الوثيقة كما في الفقرات (23)، (24)، (46)، (26) فهذا أمر متعارف عليه حالياً في الدساتير الحديثة. 15- أبقت الوثيقة على بعض الأعراف القديمة، التي كان العرب متعارفين عليها قبل الإسلام كما في الفقرات (3) وما بعدها، فنشوء الدولة الإسلامية لم يؤد إلى الإلغاء لوظائف القبيلة الاجتماعية، ذلك أنها لم تكن شراً كلها. والحقيقة أن هذه الوثيقة جاءت واضحة في نصوصها على غير مثال سبقها، وشملت نصوصها أغلب ما احتاجته الدولة الناشئة في تنظيم شؤونها السياسية، وتتضح دقة صياغة هذه الوثيقة، من خلال النظر في نصوص المعاهدات الدولية، والدساتير في العصر الحديث، وما تثيره نصوصها من خلاف في المعنى والتطبيق. كما تأتي هذه الوثيقة لتأصيل وتكريس مبدأ الحوار بل إن هذه الصحيفة تعتبر ثمرة من ثمرات الحوار الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين فئات المجتمع المختلفة في بداية انطلاق الدولة الإسلامية مما يعكس أهمية الحوار وأنه بدون الحوار لا يمكن أن يكون هناك قواعد عادلة يقوم عليها المجتمع والدولة بل العالم بأسره، ولا يكون هناك استقرار وسلام على المستوى المحلي والإقليمي والدولي ولا يكون هناك تنمية وتطوير. لذلك فإن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله إلى الحوار إنما هي تطبيق لسنة إسلامية وهدي نبوي كريم، قد يكون المسلمون أو بعض منهم تخلفوا عنه في العصور المتأخرة لأسباب عديدة، ولعل في هذه الدعوة إحياء لهذه السنة وترسيخاً لها لنشهد عصراً جديداً يقدم فيه المسلمون دينهم وحضارتهم وثقافتهم للعالم بأسلوب راق وعرض جميل، وأن نضع من خلاله أقدامنا على طريق النهضة والنصر الحقيقي المطلوب في المعركة الحقيقية في الحياة وهي معركة البناء والتنمية. @ وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد