كان المجتمع المديني - نسبة إلى المدينة - مجتمعاً متعدد الديانات، قبل الإسلام وبعده. فبالإضافة إلى الوثنية التي كانت تدين بها القبائل العربية الساكنة في المدينة، وكان على رأسها بقايا قبائل الأزد اليمنية المكونين من قبيلتي الأوس والخزرج، كانت اليهودية حاضرة بقوة هناك ممثلة بالقبائل التي كانت تدين بها وأشهرها قبائل بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة. أما بعد الهجرة النبوية الشريفة فقد ظلت التعددية الدينية عنواناً بارزاً لمجتمع المدينة، الذي أصبح موزعاً، دينياً، إلى ثلاث فئات: فئة المسلمين، ممثلين بالأنصار والمهاجرين ومن أسلم من اليهود. وفئة اليهود الذين ظلوا على يهوديتهم. وفئة ثالثة مكونة من العرب الذين لم يسلموا، ممن نافقوا، أو ممن بقوا على معتقداتهم الوثنية القديمة. أمام هذا النسيج الديني المتعدد، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بصدد تشكيل مجتمع قوي معافى من الأسقام الطائفية، فقد رأى تأطير تلك التعددية بموجب عقد اجتماعي يكون بمثابة إطار للتعايش السلمي بينهم، فكان أن أبرم ما تُعرِّفه مصادرنا التاريخية ب"صحيفة المدينة"، أو"صحيفة النبي"، والتي تُعتبر، وفقا لما احتوته من تشريعات دستورية مدنية منظمة للتعددية الدينية/ العرقية، أول عقد اجتماعي حقيقي في التاريخ الإنساني. ولأن الهدف من تدبيج هذا المقال كان معرفة الكيفية التي رتب بها الإسلام العلاقة بينه وبين أهل الكتاب،فمن الضروري أن نستعرض، من مواد تلك الصحيفة/ العقد الاجتماعي، ما ينظم علاقة اليهود بغيرهم،على اعتبار عدم وجود نصارى بين سكان يثرب حتى تلك اللحظة. يمكن لنا أن نقسم المواد التي تخص اليهود من عقد الصحيفة إلى ما يلي: - مواد تؤسس لمواطنة قائمة على المشترك الاجتماعي وحده، ومنها: "إنهم، أي اليهود، بجميع طوائفهم يشكلون في مجال الحرب أمة واحدة مع المسلمين".وأن "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يضر إلا نفسه وأهل بيته". وكذلك: "... وإن بينهم - أي المسلمين واليهود - النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يألم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم". - مواد تحدد المرجعية السياسية "إنه لا يخرج منهم، أي من اليهود، أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم". و"إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة - سكان يثرب - من حدث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله". - مواد تؤصل لتجريم الاقتتال الداخلي بين السكان، كما تؤسس للدفاع المشترك عن يثرب. وهكذا ف"إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة لأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها". و"إن بينهم - سكان يثرب من كافة الطوائف - النصر على من دهم، (اعتدى)، يثرب". و"إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة". و"أنه لا تُجار قريش ولا من نصرها". وإضافة إلى ما سبق من مواد، فقد حسم القرآن الجدل في المرجعية التشريعية التي يجب أن يُرجع إليها في فض الخصومات التي قد تحدث بين ساكني يثرب، بأن تطبق أحكام التوراة على اليهود مثلما تطبق أحكام القرآن على المسلمين في سابقة دستورية لا مثيل لها في ذلك الوقت. فقد رُوي أن جماعة من اليهود قالوا: تعالوا نذهب إلى محمد لعلنا نفتنه، فدخلوا عليه وقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود، وأن بيننا وبين خصومنا مقاضاة فنحاكمهم إليك فاقض لنا ونحن نؤمن بك، فنزلت هذه الآية: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه،( مدخل إلى القرآن الكريم)، ما نصه: "... وهذا اعتراف صريح بالاختلاف، وأن أحكام التوراة يجب أن تطبق على اليهود، تماماً مثلما تطبق أحكام القرآن على المسلمين". وقبل الجابري، أشار القرطبي عند تفسيره لهذه الآية إلى ما رُوي عن ابن عباس والحسن من أن معنى الآية أنه "جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله...". لقد سار الجدل القرآني المدني على نفس الطريقة اللينة المتسامحة التي سار عليها في القرآن المكي. لكن عندما بدأت مواقف يهود المدينة تتحول رويداً رويداً نحو الشدة والعنف مع المسلمين، فمن الطبيعي أن تتحول طريقة القرآن في الجدل معهم نحو التوبيخ والتقريع أولاً، ثم التهديد بسوء العاقبة تاليا.ومن ثم يمكن القول إن المتغير هنا هو موقف اليهود نفسه من الوفاء بتعهداتهم تجاه التعايش السلمي مع المسلمين. وإن موقف الإسلام المسالم المتسامح مع اليهودية وغيرها من الأديان والثقافات كان، ولا يزال، ثابتاً. وذلك يعني أن نزوع الجدل القرآني نحو الشدة مع اليهود كان نزوعاً ظرفياً تجاه أحداث وشخوص تاريخية بعينها. وهذه نقطة غاية في الأهمية علينا أن ندركها جيداً لنقطع الطريق على من يقتاتون على إظهار الإسلام الحنيف وكأنه دين يؤسس للاحتراب "الدائم" مع الأديان والثقافات الأخرى. لقد بدأت إرهاصات تحلل يهود المدينة من متطلبات الصحيفة/ العقد الاجتماعي مع تذمرهم من تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. ثم تجلى ذلك بصورة أكبر مع ردة فعلهم السلبية تجاه انتصار المسلمين في غزوة بدر، والمتمثلة بمحاولتهم تحقير ذلك الانتصار وإظهاره بمظهر الحدث الصغير الذي لا يرقى إلى مستوى الأحداث التاريخية الكبيرة. وفي هذا المجال تروي مصادرنا أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:" يا محمد لا يغرنك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب، ولو لقيتنا لتعلمن أنا نحن الناس"، فأنزل الله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد). وطبقا لآلية القرآن الكريم في التجاوب مع الأحداث والتطورات، باعتبار أنه كان ينزل منجماً على حسب الوقائع، فقد تحول الجدل مع اليهود، مع تلك الإرهاصات الأولية لخروجهم على الجماعة، إلى العمل على محورين: أولهما: محور تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم عن طريق استخدام ضمير المخاطب في عرض ما جرى لأسلافهم الغابرين، مما يجب معها أن تكون أبلغ في منعهم من الانزلاق نحو التمادي في نقض العهود. والذي منه الآيات التالية: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون. وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون). وأيضاً: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون). ثانيهما: محور التحذير من عواقب نقض عقد الصحيفة، والذي منه قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون). لكن رغم كل تلك الاستفزازات من جانب السكان اليهود، إلا أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم معهم ظل مسالماً. لكن تلك الاستفزازات تحولت فيما بعد إلى ما يشبه الانقلاب المسلح على المجتمع والدولة معاً، والذي بدأ بحادثة شجار في سوق الصاغة العائد لبني قينقاع أدت إلى مقتل يهودي ومسلم، رفض بعدها بنو قينقاع فض النزاع بشكل سلمي وفق ما تنص عليه الصحيفة، مما يعد أول خرق من جانب اليهود لذلك الميثاق/ العقد. وفوق ذلك تحصنوا - أي بنو قينقاع - بحصونهم استعدادا للعدوان على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، مما أدى إلى محاصرته إياهم حتى استسلموا فسمح لهم بالهجرة إلى الشام!. أما بنو النضير فقد خرقوا واحداً من أهم مبادئ عقد الصحيفة عندما أرسلوا إلى مشركي قريش يحرضونهم على الأخذ بثأرهم مما حصل لهم في بدر. وعندما هاجمت جحافل قريش المدينة واصطدمت مع المسلمين في غزوة أحد، رفضوا - أي بنو النضير - تأدية واجبهم الحربي في الدفاع عن المدينة، وفق ما تنص عليه الصحيفة، في خرق جديد لميثاقها. بل قاموا، فوق ذلك، بأداء دور الطابور الخامس، عندما تحالفوا مع منافقي المدينة في التشكيك بقدرة المسلمين على صد الغزاة. وفي فصل جديد من نقض يهود بني النضير لميثاق الصحيفة، قاموا بحفز قبائل قريش وغطفان على الانضمام إليهم، ومعهم بنوا قريظة، لمهاجمة المدينة، فالتقوا مع المسلمين في معركة عرفت بأدبيات السير ب"غزوة الأحزاب" أو"الخندق". والتي استطاع المسلمون من خلالها إنهاك الجيش المتحزب ضدهم، بعد أن حفروا خندقاً للدفاع عن المدينة. وأمام هذا المكر والخديعة ونقض العهود من جانب بني النضير وبني قينقاع معاً، لم يكن أمام النبي صلى الله عليه وسلم، بصفته قائد دولة المدينة والمسؤول عن حمايتها، إلا أن يحسم الأمر معهم. فقد حكَّم أحد رجالات حلفاء بني قريظة من الأوس فيهم، والذي حكم بقتل مقاتِلتهم جزاءً لهم على حملهم السلاح ضد دولتهم ومجتمعهم. وأما بنو النضير الذين جندوا الأحزاب ضد المسلمين، فقد أمرهم الرسول بمغادرة المدينة، ولكنهم رفضوا وتحصنوا بحصونهم، مما أدى به إلى محاصرتهم، فاستسلموا بعدها وطلبوا مغادرة المدينة فأذن لهم بالمغادرة. والذي يستنتجه الفاحص الموضوعي من سياق الجدل القرآني مع يهود المدينة، أنه لا توجد مواقف عدائية مسبقة للإسلام، لا مع اليهودية ذاتها، كديانة سماوية، ولا مع اليهود أنفسهم كأفراد يدينون بها. بقدر ما كان الأمر حسماً لموقف سياسي/اجتماعي عدائي اتخذته ثلة من سكان يثرب، ممن كانوا يدينون باليهودية آنذاك، عندما رفضوا الانصياع لمقتضيات التعايش المدني المشترك الذي تعاقدوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يمكن للمجتمع الحاضن لمثل من يتخذون مثل تلك المواقف العدائية من الدولة والمجتمع الذي يشاركون أفراده العيش، إلا أن يتعامل معهم بما يقتضيه ذلك الموقف من شدة تزيد أو تنقص حسب نوع ودرجة الموقف العدائي نفسه. وهو في النهاية، موقف أو إجراء مدني وليس دينيا، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أبقى يهود خيبر وفَدَك وتيماء ووادي القرى في قراهم وأعمالهم فيها. وهذا هو المهم في خلاصة الاستنتاج.