تنبت ناطحات السحاب في بعض أكبر المدن الصينية على أرض كانت زراعية قبل أقل من جيل مضى. ويعتبر ذلك بالنسبة للحكومة شهادة على تزايد تحوّل البلاد إلى قوة عظمى متمدنة. وهناك وفرة من البيروقراطيين الصينيين الذين يرغبون في استمرار هذه العملية، بالرغم من الانكماش الاقتصادي في الصين. وحسب تقرير تم نشره في الأسبوع الماضي، تبيّن أن الحكومات المحلية تخطط لتطوير أكثر من 3500 منطقة حضرية في الأعوام القليلة القادمة، لها قدرة على إسكان 3.4 مليار إنسان، أي حوالي نصف البشر على الأرض. ويُعتبر هذا اندفاعة متهورة نحو مخططات أولية غير متناغمة، وتذكرة جيدة على أنه لا يزال على المخططين الصينيين إيجاد طرق للنمو يفضلونها أكثر من استخدام أدوات لحشر الناس في مدن مبنية حديثا. ولكن يعود الفضل في هذا التوجّه إلى التغيرات السكانية والاقتصادية الكاسحة، فلذلك فهم بحاجة إلى واحدة من هذه الأدوات، لأن البرنامج العمراني الصيني، البالغ من العمر 40 سنة، وصل الآن إلى حدوده القصوى. في عام 1953 كان أكثر من 85 بالمائة من سكان الصين يعيشون في أماكن ريفية. وابتداء من سبعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي بدأت فيها التغيرات والتقدم الصناعي، بدأت المصانع تنبت على طول الشواطئ الصينية، وشرعت الحكومة بتخفيف القوانين التي تقيد الأماكن التي على المواطنين العيش فيها. وخلال العقود القليلة التي تلت ذلك، ترك مئات الملايين من الناس المزارع للعمل في البلدات والمدن التي ازدهرت حول المصانع الجديدة. بعض هؤلاء فعل ذلك طوعا، بينما أجبرت الحكومات المحلية آخرين على ترك أراضيهم رغبة منها في تطوير مصانعها المحلية وتجمعاتها السكنية. نتج عن ذلك تحولات هائلة، فقد ارتفعت نسبة من يعيشون في المدن في الصين، خلال الفترة ما بين 1982 و2015 من 21 بالمائة إلى 56 بالمائة. للوهلة الأولى بدا وكأن كل ما يتوجّب على الحكومة المحلية عمله لتشجيع النمو هو طرد بعض المزارعين من أراضيهم وبناء عقار صناعي وتقديم خصومات ضريبية لأول مصنع يرغب بفتح أبوابه. وخلال السنوات القليلة التي تلت عام 2000، أذكر أنني كنتُ أحدق متشائمًا في المستوطنات الحضرية الهائلة الممتدة لعشرات الأميال خارج مركز مدينة شنغهاي وهي قيد الإنشاء. لكن حين عدت بعد سنة أو سنتين، رأيت كيف أصبحت هذه المستعمرات بلدات مزدهرة تؤوي مئات الآلاف وترفع من قيمة الأملاك إلى مستويات جعلت أسعار المصانع غالية. وقد كررت هذه العملية نفسها في أنحاء أخرى من الصين. ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. ففي ربيع عام 2013 زرت جزيرة شانغسينغ في شمال الصين. كانت الحكومة هناك مصممة على تحويل منطقة، كانت يوما ما ريفية، إلى مركز صناعي رئيسي ولبناء السفن. ومع ذلك كانت المصانع التي زرتها هادئة والطرق التي تؤدي إليها غير مزدحمة، وهو الأمر الذي أثار الشك في نفسي. قمت في ذلك الوقت بزيارة مجموعة قليلة من المستوطنات الحضرية التي انتشرت فيها عمارات سكنية عالية، وكان من الواضح أنها فارغة من سكانها. وعندما ذهبت إلى أحد مطاعمها، كانت الطاولات فارغة، وإحدى الأحوال التي ما زلت أذكرها، هي أن الأعمال كانت بطيئة لدرجة أن أحد النوادل خرج من باب المطعم لشراء بعض المكونات الداخلة في الوجبة لتلبية طلبنا. يبدو أن العديد من هذه المصانع التي أنشأت هذه المستعمرات الجديدة هي من سيواجه هذه المشاكل. وعلى الأرجح كان السبب الأهم في ذلك هو التغيرات الديموغرافية التي حدثت. ففي سبعينيات القرن الماضي، كان لدى الصين فائض من العاملين الشباب الماهرين الذين يعملون في أعمال زهيدة الأجر في أريافها. ولكن الحال لم تعد كذلك. فقد بدأت أعداد السكان الذين هم في سن العمل في حالة تراجع منذ عام 2011، واستمر معدل المواليد في البلاد في الانخفاض. أما الآن فأصبحنا نشاهد كيف أصبح عمال اليوم غير مهتمين تقريبا بالابتعاد عن بيوتهم كما فعلت الأجيال التي سبقتهم. ففي العام الماضي انخفض عدد المهاجرين من الأرياف إلى المدن بمقدار 5.68 مليون شخص، وهو أول انخفاض تشهده البلاد منذ ثلاثة عقود. كان أحد الأسباب في ذلك هو تحسن الأحوال في الأرياف بشكل بارز في السنوات الأخيرة، وزيادة الدخل في المناطق الريفية كان أسرع مما هي في المناطق الحضرية. كان الفضل في ذلك يعود إلى عقود من الاستثمار في البنية التحتية في الأرياف وإلى الوصول المتنامي للاقتصاد الإلكتروني. وحتى لو رغب صيني يسكن في بلدة صغيرة في ترك بيته، فلن تكون على الأرجح وجهته المفضلة هي جزيرة شانغسينغ أو أي من المستوطنات الجديدة البالغ عددها 3500 التي يقال إنها موجودة على المخططات المعدة للإنشاء. وفي العام الماضي انتقل واحد من عشرة فقط من المهاجرين إلى المدن الصغيرة. وعلى الرغم من هذه المشاكل، لا تزال الحكومة المركزية تهدف إلى رفع معدل التمدن ليصل إلى نسبة 60 بالمائة بحلول عام 2020. وهذا يستلزم مغادرة 100 مليون إضافي من سكان الأرياف في السنوات الأربع القادمة، وهو أمر يتم في وقت يُعتبر فيه المنطق الاقتصادي لمثل هذه المستوطنات مشكوكا فيه إلى حد كبير. وبدلا من وضع مثل هذه الأهداف وإنشاء مستوطنات واسعة لتحقيقها، كان من الأفضل الاستثمار في بعض المميزات والمرافق الحضرية، ومن ثم ترك العاملين أن يقرروا بأنفسهم المكان الأفضل لعيشهم. ومن الخطوات الجيدة في هذا المجال وضع برنامج لتوصيل المياه النظيفة إلى مئات الملايين من الصينيين الذين يفتقدون حاليا مثل هذه المياه. ومن الخطوات الأخرى التي يمكن اتباعها هناك أيضا وضع خطة وطنية للسيطرة على الفيضانات التي تحدث في المناطق الحضرية، مثل تلك التي ابتليت بها بعض المناطق في جنوب ووسط الصين في الأسابيع الأخيرة. وأخيرا على الحكومة إصلاح نظام السماح المسمى بالصينية «هوكو» والذي عفا عليه الزمن، الذي يمنع المهاجرين من الأرياف من الحصول بسهولة على الحقوق والخدمات التي يتمتع بها نظراؤهم في المناطق الحضرية. كل هذه الإصلاحات لا تتمتع بالجمال والجاذبية التي نجدها في ناطحة سحاب جديدة. لكن بصورة جماعية تستطيع هذه الإصلاحات أن تقطع شوطا طويلا في ضمان أن المدن الصينية تستحق العيش فيها.