أتردد خيرياً على اليابان منذ فترة طويلة. فقد مكثت ثلاث سنوات من عمري لما كنت يافعاً ضمن مجتمع ياباني في بداية حقبة الثمانينيات الميلادية واكتشفت حينها أن الشخصية اليابانية تتطلب (كتالوجاً) خاصاً بها لفك طلاسمها المتشعبة بعمق التاريخ وتتطلب كذلك دليلا تشغيلياً إن جاز التعبير لسبر أغوارها ومعرفة كنهها! فالتعامل مع الشخص الياباني يحتاج لتحضير طويل لمعرفة جميع الجوانب المحيطة بموضوع النقاش وكذلك الجوانب غير المحيطة بالموضوع في ذات الأوان! وهذا يفسر سبب فشلي الذريع في إدارة الاجتماعات مع اليابانيين إذ أُسقط موروثات شخصيتي العربية بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات على أناس ليسوا من كوكبنا. فالعقلية اليابانية هي خليط من الدقة والانضباطية والصرامة والوفاء غير الطبيعي والالتزام الآسر وكل ما يحويه قاموس هذه المفردات من نعوت. وكي لا يكون هذا المقال طويلا، إليكم هذه القصة الأثيرة. فقد كنا برحلة خيرية لليابان قبل مدة وبصحبة وفد كريم، ومثل هذه الرحلات مألوفة ولكن هذه الرحلة حدث فيها شيء مميز هو أقرب للخيال، ولولا أني عايشت الحدث بنفسي لاستصعبت حدوثه، ودعوني أروِ ذلك مختصرا الحديث بما تتسع له هذه الأسطر، فبعد الوصول إلى طوكيو أكملنا مسيرتنا جوا إلى هيروشيما لافتتاح وقف خيري لمسلمي هيروشيما، ومن ثم زيارة المسجد في هذه المدينة التاريخية وبعد أن حطت بنا الطائرة في مطار هيروشيما توجهنا لركوب السيارات للوصول إلى مقصدنا، فكان أول حدث لفت انتباهنا هو وجود عدد من سائقي السيارات الراقية في استقبالنا. من المطار توجهنا مباشرة للمسجد وكان المشوار طويلا يقارب مسافة تتجاوز الستين كيلا، وكان السائق لا ينبس ببنت شفة، وكالعادة أمضيت أنا وصاحبي الوقت في السيارة بالحديث في مواضيع مختلفة. وصل الوفد إلى المسجد، وهنا الأمر الآخر الغريب، كان في استقبالنا عدد من السيدات يرتدين اللباس الياباني التقليدي (الكومونو) حيث كنّ بقمة قيافتهن اليابانية، مما زاد من استغرابي والتساؤل عن كنهنّ، وماذا يفعلن هنا في زيارة وفد لمسجد، وقد بالغن بالترحيب والتقدير وقمن بتقديم الهدايا لجميع أفراد الوفد وظللن في أماكنهن إلى ما بعد أدائنا الصلاة. بعد إتمام مراسم الافتتاح وزيارة المسجد، والتي استغرقت قرابة الساعتين، ذهب بنا سائقو السيارات لأفخم مطعم في المدينة، وأبوا إلا أن ينتظروننا في الخارج، أما النساء اليابانيات فقد اختفين ولا نعلم أين ذهبن. تناولنا الغداء، بعد هذا قفلنا راجعين مع السائقين للمطار وبنفس الطريق الطويل، وهنا الأمر الغريب الثالث، فعند وصولنا للمطار فوجئنا بوجود النساء اليابانيات اللاتي كنّ في استقبالنا في المسجد مرة أخرى، وقد أتين للمطار لوداعنا وقد جلبن معهن هدية ثمينة لكل فرد من أفراد الوفد، هذا الأمر ليس بالمعتاد مطلقا، وأثار استغرابا لما يحدث بين جميع أفراد الوفد، وبدأنا نتساءل من هؤلاء النسوة، ولماذا يفعلن ذلك، خصوصا وأنهن غير مسلمات، ولما رأى صاحبي علامات التعجب على أفراد الوفد صدمنا بمفاجأة من العيار الثقيل حين قال: يا سادة؛ سائقو السيارات الفخمة هم رؤساء أكبر شركات هيروشيما أتوا لكم بسياراتهم الخاصة! أما الصدمة الأخرى فالنساء اللاتي أحطن بنا في المسجد، ومن ثم في المطار لم يكن سوى زوجاتهم! يا الهي! دارت الدنيا بنا، وشعرنا بخجل من هذا الموقف، مع وجود الحرج الشديد في كيفية شكرهم ومكافأتهم، وراودتنا مشاعر الحيرة أمام سلوكيات لم تكن لتخطر لنا على بال، مع العديد من الأسئلة التي دارت في خلدنا والتي توجهنا بها إلى منسق الرحلة: ما الذي حمل رؤساء كبرى شركات هيروشيما أن يقوموا بهذا الصنيع، حيث وهبوا لنا وقت عطلتهم الأسبوعية، وأتوا بزوجاتهم، وتحملوا كل هذه المتاعب من قيادة السيارات، ومشاق الطريق، والانتظار، بل ومن زيادة أدبهم وكياستهم لم يعطوا أي إشارة، أو حتى إيماءه بسيطة لعلنا ننتبه، ومن ثم نعطيهم من الاهتمام والقيام بالواجب ما يستحقونه، قال لنا المنسق بالحرف الواحد: «سمع أهل هيروشيما بقدومكم من السعودية لهدف نبيل، بالرغم أنهم ليسوا مسلمين، فآلوا على أنفسهم إلا أن يقدموا لكم عربون الوفاء هذا»!!!