الجزيرة القطرية أعلن حزب العدالة التركي رسميا ترشيح زعيمه التاريخي رجب طيب أردوغان لرئاسة الجمهورية في أول انتخابات يَقترع فيها الشعب مباشرة بدلا من البرلمان في أغسطس/آب القادم، وهي مفصل تاريخي في تتويج مسيرة أردوغان كصانع للجمهورية الثانية في تركيا بعد مؤسسها كمال أتاتورك. وهذه المسيرة عبرت منعطفات صعبة، انتقلت فيها تركيا من دولة مؤسسات علمانية صارمة عبر استبداد الحزب الواحد إلى دولة ديمقراطية تنزع إلى العلمانية الإنسانية والتصالح مع الدين، كما شكّلت مسارات التحول التدريجي لهذه الديمقراطية في تركيا نموذج صعود وتأثير إقليمي واسع في منطقة الشرق الإسلامي ومدار الشرق الأوسط وتجربة الحركة الإسلامية الحديثة. وأصبحت تركيا محورا مركزيا لتطلعات الإقليم أو تحدياته ومعاداته من قبل أطراف أخرى تخشى من قوة العهد التركي الجديد في المنطقة، ولكن -وفي كل الأحوال- يبدو واضحا أن المسيرة التي اعتمدها أردوغان وعبد الله غل ورفاقهما للانطلاق نحو بناء جديد للفكر الإسلامي في ممارسة السياسة، وصناعة منظومة كاملة للعبور بالجمهورية التركية بديمقراطية حقيقية تستفيد منها الفكرة الإسلامية قيما ونظاما، قد اكتملت مرحلة بنائها حين تُعلن نتائج الانتخابات المتوقعة بفوز أردوغان كرئيس للجمهورية. غير أن هذه المرحلة التي قد تختتم في ذلك التاريخ ما لم تحصل مفاجأة وهو ما تقلصت فرصه كثيرا، بعد انتكاسة أحزاب المعارضة في انتخابات مارس/آذار الماضي، وانكشاف مشروع التنسيق الإقليمي معها، وهو ما أعطى أردوغان دفعة قوية شعبيا في انتصاره ستساعده على استكمال مشروع إصلاح القضاء، وإنهاء كتل الإرث القديم للاستبداد العلماني، والتي كانت تحبط أي مسيرة ولادة للديمقراطية الحديثة منذ الانقلاب على عدنان مندريس. فختام هذه المرحلة سيُدخل حزب العدالة في تحدٍ جديد، وهو قدرات التحوّل من القيادة "الكاريزمية" لأردوغان إلى قيادة المؤسسة الجماعية، والتي ستُبقي أردوغان كرمز للجمهورية الجديدة يُحتذى به في مسيرة الديمقراطية التركية بعد أن كان كمال أتاتورك نموذجا للمسيرة العلمانية الصارمة. ومن المهم هنا المنظور الواقعي لطبيعة الانجذاب الإنساني عموما أو الشرقي خصوصا للشخصية القيادية التي لعب فيها أردوغان دورا مركزيا في أنموذج القائد الحريص على شعبه والمثير لوجدانهم، لكن عبر قناعات عملية وأرقام حقيقية للتقدم والتنمية وليس عبر خُطب تمجيد تخفي خلفها ترسانة من القمع الأمني الذي يعيشه المشرق الإسلامي. وهذه المسيرة ستُواجه تحديات كبيرة، أولها حسم توجه حزب العدالة وقاعدته الإسلامية والديمقراطية نحو ملف تعديل النظام الجمهوري التركي ليكون مقاربا للنظام الأميركي مع الحفاظ على قيم التجربة التركية، وهو النظام الرئاسي البرلماني المشترك، أو الإبقاء على النظام البرلماني المركزي الذي يمنح إدارة الدولة للحزب الفائز بالأغلبية المطلقة، بينما رئيس الجمهورية يبقى بصلاحيات محدودة. والذي تعطيه المؤشرات أن النظام البرلماني هو الضمان لتحقيق الإرادة الشعبية وصيانة الديمقراطية التركية من محاولات نقضها المستمرة، وحين تخلّى الحزب عن فكرة أولية في تعديل الدستور لمنح فترة إضافية لأردوغان كرئيس وزراء مستمر للدورة القادمة، فقد أعطى مؤشرات واضحة لتوجهه الديمقراطي والقبول بخيار التحدي التنافسي القادم في الانتخابات البرلمانية. هنا سيحتاج أردوغان والقاعدة السياسية والفكرية لحزب العدالة إلى حركة إنتاج داخلي وفرز لفرق عمل وأطقم مؤسسات تقوّي منصة القرار نوعا وكما، بحيث تخلق هذه القاعدة تشكيلات قوية لتجذير الإرادة الشعبية ومسيرة العمل الديمقراطي، وسيبقى خليفة أردوغان أمام تحد كبير بشأن كيفية ملء مساحة شخصيته التي ارتبط بها الضمير التركي، وكيف يُمارس مهامه كاملة دستوريا أمام صورة أردوغان الرئيس. وواضح أن الحزب يقوم بعمليات فرز وحوار داخلي لهذه المرحلة، وطُرحت بعض الأسماء كنعمان كورتولموش وأحمد أوغلو للقيام بهذه المهمة، وإن لم يُحسم هذا الأمر، خاصة مع وجود أنباء مؤكدة تطرح أسماء من جيل الشباب الجديد الذي أفرزته العملية الديمقراطية الداخلية للحزب، وخاصة عبر صناعة الفكر الإسلامي الديمقراطي داخل هذه المؤسسات، ويقال إن أردوغان كان يدفع ببعضهم لتجارب قوية لإنضاجهم سياسيا. في كل الأحوال ستبقى ظلال هذه التجربة القادمة حسّاسة وذات أهمية بالغة للحياة السياسية التركية والحركة الديمقراطية الإسلامية فيها إجمالا وحزب العدالة والتنمية، وأمام تحد لا يزال شرسا من قبل التحالف المعارض وتقاطعه مع رغبة المحور الإقليمي والدولي في التخلص من زحف تركيا الجديد كقوة منافسة، فإن التوازنات الداخلية ستبقى مهمة للغاية لهذه الحقبة. ويحتاج الحزب إلى تقوية التحالف الديمقراطي بين الإسلاميين والديمقراطيين لتبقى عملية صعود الجيل الإسلامي الجديد من القاعدة الفكرية للحزب ضمن هذا التدرج الدقيق، خاصة أن ملفات تركيا الداخلية والخارجية نشطة ومتفاعلة للغاية، وتحتاج عناصر خبرة عديدة للتناوب عليها، بذات القدر الذي تحتاج إلى تجديد في دمائها، مع التذكير بأن العمل السياسي لأنماط البشر إسلاميين وغيرهم هو اختبار صعب، ومن الطبيعي جدا أن تسقط فيه شخصيات أو نماذج شابة يسعى الحزب لتوليها بعض المهام الكبرى لنزعات شخصية أو قلة حنكة، فيتبين عدم قدرتها على ذلك. في ذات الوقت، فإن قوة البناء الديمقراطي وتوسّع تجربته دستوريا وتنمويا داخل العدالة والتنمية، سيبقى رهانا قويا لمصلحة الحزب في مرحلة ما بعد أردوغان رئيس الوزراء وحتى نهاية فترته في رئاسة الجمهورية. وإجمالا يبدو الحزب حتى الآن قادرا على ضبط هذا التوازن في قوة الدفع بجيل الشباب المنتمي لقيم ومفاهيم الحزب الإسلامية والديمقراطية وتحالف شخصيات الخبرة والتكنوقراط الوطني. وأمام حزب العدالة الملف المؤجل الصعب، وهو مساحة التمثيل للإرادة الشعبية في وسائل الإعلام، فالإعلام مهيمن على مساحة كبيرة جدا منه من قبل تحالف رأس المال وقوى العلمانية المتطرفة السياسية والثقافية الموروثة من العهد القديم، والتي تعزّزت بتحالفها الأخير مع جماعة فتح الله غولن، والخيار الذي يستطيعه أردوغان وحزب العدالة اليوم وفقا لمسارات المساحة الديمقراطية هو فتح أجواء المشاريع الإعلامية الجديدة التي تعطي الشعب مساحة التعبير والشفافية والمصداقية دون القالب الأيدلوجي المتطرف الذي يُغلّف به إعلام المعارضين. فواضح أن هناك فارقا كبيرا جدا في إمكانية الطرفين لمصلحة المعارضة، وهو إعلام معارض غير منصف في كثير من الجوانب، ويخضع غالبا إلى الإقصاء الأيدلوجي وليس النقد الموضوعي في صراعه مع حزب العدالة، وهذا الانفتاح والتأسيس الإعلامي الحر وصناعة الإعلام الجديد في العهد الديمقراطي سوف يأتي بنتائج إيجابية أفضل من قضية مطاردة إعلام المعارضين مع بقاء حق التقاضي المشروع في مساره. كما أن الحزب بحاجة إلى أن يُدرك ضرورة منح مساحة تعبير للرؤى المعارضة في ذات مؤسساته وحواراته الإعلامية رغم قلة إمكانياته أمام المعارضين، ولعل أنموذج قناة التركية العربية الناجح في مشروعه يعطي بعض المؤشرات عن ذلك والحاجة لتعديل خط الحوارات الفكرية والسياسية فيها إلى مساحة أكبر من التمثيل والتعدد، وإن كان مفهوما أنها قناة موجهة للعرب والناطقين بلغتهم، لكن هذا لا يمنع من توسيع دائرة الرأي وصناعة الإنتاج فيها بعد نجاحها المشهود اليوم. وأمام حزب العدالة ملف غاية في الخطورة، وهو أيضا ترسانة قوة لتركيا واستقرارها السياسي، وهو التعاطي الداخلي مع قضية الاندماج الوطني بين الأكراد والأتراك، وواضح أن القضية الكردية تُمسك وتدفع بها أطراف عدة، وهي تستثمر هذه الانفجارات في الجوار التركي عراقيا وسوريا وتتوسع، لكن مشروع أردوغان للمصالحة الوطنية وضح أنه مدخل عميق وقوي لحماية تركيا وأمنها القومي ووحدتها الوطنية. ومع التعثّر الذي تعرض له المشروع مؤخرا، والتدخل المتوقع من قبل قوى إقليمية للضغط على قيادات كردية لإسقاطه، فإنّ هذا الخيار الذي بدأه أردوغان وقبِل به أوجلان سيبقى حزام أمان قويا لتركيا الجديدة ولقواتها المسلحة وليس من مصلحتها هدم ما تحقق فيه، فهذا سيفتح أذرع الإقليم والعالم عليها. وهنا لم نتعرض لتحديات إقليمية خطيرة يواجهها حزب العدالة التركي وآثار الحروب من حوله وقمع الثورات التي تنتمي لقواعد شعبية مؤيدة لتركيا الجديدة فهذا يحتاج لمقال آخر، لكن قوة الداخل ستبقى ضمانة لمواجهة مثل هذه التحديات، وخاصة المشروع الخطير لتحويل داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) إلى قوة عسكرية تُسقط تركيا الديمقراطية عبر بوابة العنف بعد أن عجزت الإرادة الدولية والإقليمية السياسية عن إسقاط أردوغان والتجربة التركية الحديثة.