سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشُ ثَمَانِينَ حَوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْأَم رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ... تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ (زهير بن أبي سلمى) يتقاعد موظفو الحكومة المدنيون مجبرين بقوة النظام عند بلوغ سن الستين. ويتقاعد العسكريون قبل ذلك بكثير. وفي القطاع الخاص، يوجد لدى نسبة كبيرة من المنظمات نظام تقاعد إجباري. ولكن هل يجب أن يغادر القادة المميزون منظماتهم فقط لأنهم بلغوا سنًا معينا، بغض النظر عن إنجازاتهم وقدراتهم على تحقيق قيمة مضافة للمنظمة؟ هذا ما حصل لجاك ويلش في العام 2000م عندما حقق أكبر نجاح له خلال فترة عمله الذي امتد لعشرين عامًا كرئيس لشركة جنرال إلكتريك، بإنجازه اندماجًا مع شركة هانيويل بصفقة بلغت 45 بليون دولار. فقد كوفئ بعد ذلك بفترة قصيرة بإحالته على التقاعد، طبقا لسياسة التقاعد الإلزامية لجنرال إلكتريك الخاصة بالمديرين التنفيذيين عندما يبلغون 65 عامًا. وكنتيجة لمثل هذه السياسة، تواجه الكثير من المنظمات في العالم نقصا في الخبرة نتيجة تقاعد بعض قادتها وموظفيها الأكفاء، في حين لا يمكن سد هذا النقص بسهولة. في كتابهما المعنون «حياة المئة عام،» أشارت ليندا غراتون وزميلها أندرو سكوت (2016م)، الباحثان بكلية لندن لإدارة الأعمال الى أن نصف البالغين ستين عاما من الناس سوف يعيشون على الأقل حتى سن التسعين. وخلال العقود القليلة الماضية، فقد تحسن معدل العمر على مستوى العالم بشكل كبير، نتيجة لتحسن النظام الغذائي للبشر وتطور الرعاية الطبية والوعي الصحي. حسب تقرير الصحة العالمية فإن معدل العمر عند الولادة في العالم كان في العام 1955 يقف عند 48 عامًا فقط. وفي العام 1995، قفز إلى 65 عامًا. وفي العام 2015 وصل 71.4 عام. ومن المتوقع أن يصل معدل العمر عالميًا إلى 73.7 عام في العام 2025، و77.2 في العام 2050، و83.2 عام بنهاية القرن الواحد والعشرين. هذا مع العلم بأن معدل العمر هو أفضل في المجتمعات المتقدمة أو الغنية. ففي اليابان، بلغ متوسط العمر نحو 85 عامًا في العام 2015م. وفي المملكة، يبلغ متوسط العمر اليوم 74.1 عام، ومن المتوقع أن يبلغ 85.3 عام بنهاية هذا القرن. وبرغم حتمية هلاك كل المخلوقات، فقد دفع هوس الناس بالبحث عن الصحة وطول العمر، بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الشيخوخة ليست بالأمر المحتم الذي لا مفر منه. فقد صدر مؤخرا كتاب بعنوان «فك شفرة الشيخوخة،» من تأليف جوش ميتيلدروف وَدوريون ساغان. ويرى الكاتبان أن البشر لا تموت لأن أجسامهم تبلى أو نتيجة المرض، وإنما لأنهم مبرمجون لكي يموتوا في وقت معين، من أجل صالح كل المخلوقات. فهناك ساعة بيولوجية تتحكم بحدوث الوفاة. وهما يعتقدان أنه ربما كانت هناك طريقة لإعادة برمجة نظام الموت. ولذلك، فهناك علماء يسعون لمعرفة هذه الساعة البيولوجية والجينات التي تحملها وتعمل على فنائنا. ويعمل ميتيلدروف مع فريقه ضمن مشروع بحثي اسمه «جلجاميش» الذي يرمز إلى الخلود، لفك هذه الشفرة. ويعتقد أن باستطاعته الوصول إلى ذلك خلال عقدين من الزمن. ومعنى كل ما سبق، أن ازدياد أعمار الناس، سيرهق كاهل المنظمات الحكومية وغير الحكومية بالالتزام في دفع رواتب المتقاعدين لسنين طويلة وأكثر مما يُتوقع، مما سيقود إلى إفلاسها. ولذلك، فكثير من الأبحاث اليوم تتكلم عن وجوب استجابة المنظمات لإلغاء نظام التقاعد، وعدم التمييز على أساس السن، والاستفادة من التوجه الجديد بالاحتفاظ بالموظفين القدماء ورفع مستوى ارتباطهم بالمنظمة من خلال صنع ثقافة تضع قيمة للخبرة وتسمح بجداول عمل مرنة مع توفير خطط للمغادرة. وللحقيقة فإن نظام التقاعد الإلزامي له بعض المنافع. فقد وجد الباحثان براندون كلاين من جامعة ولاية ميسيسيبي، وآدم يور من جامعة ميسوري أن التقاعد الإلزامي ساعد الشركات على تجنب تدني الأداء المرتبط بالمديرين التنفيذيين الكبار في السن. ولكنهما وجدا أيضا دليلا على أهمية الخبرة التنفيذية لتحقيق النجاح المالي للشركة. ففي الوقت الذي يكون فيه القيادي الأصغر سنًا أفضل لنجاح المنظمة، فإن الدراسة وجدت أنه إذا حُيّد السن، فإن القائد الذي أمضى فترة أطول مع المنظمة يكون هو الرهان الأفضل. وهذا يعني أن التقدم في عمر القائد لا قيمة له في غياب الخبرة. هل آن للتقاعد أن يتقاعد؟ مع الارتفاع المتصاعد لمعدل العمر، فإننا نشهد اليوم سقوطا لنظام التقاعد بسقوط النمط التقليدي لمراحل العمر الثلاث: التعليم، ثم العمل، ثم التقاعد. فالركون إلى المعاش التقاعدي لم يعد بديلا نافعا. ومهما تقدم بك العمر، فإن كنت في صحة عقلية وبدنية جيدة، فإنه من غير المجدي ركن خبرتك على رف التقاعد. هناك توجه جديد سوف تتبناه الأجيال القادمة، من أجل الاستفادة من معارف ومهارات ومواهب المتقاعدين لإحداث فرق نوعي في مجتمعاتهم والعالم. حتى لو كنت متعبا من العمل المحدد الذي تقوم به، فإن قدراتك القيادية، وعملك الجماعي، ودرايتك في إدارة المشاريع يمكن تطبيقها على مجموعة من الأنشطة الأخرى. التقاعد ليس نهاية بل بداية. فهو فرصة للتجربة والاستكشاف، والمشاركة في مساعي ذات قيمة، وربما لإعادة اختراع نفسك.