شهدت السياسة الخارجية لتركيا انقلابا مدويا خلال الأيام القليلة الماضية، بالتوقيع مع إسرائيل على اتفاق ينهي قطيعة معها دامت ست سنوات، وبإعادة تطبيع العلاقة مع روسيا الاتحادية بعد توتر كاد يصل إلى حد الصدام المسلح عقب قيام تركيا بإسقاط طائرة عسكرية روسية بالقرب من حدودها مع سوريا، وبعد صدور تصريحات من مسؤولين أتراك تشير إلى استعداد تركيا لتطبيع علاقاتها مع مصر. فهل تعني هذه التطورات المثيرة أن تركيا تقوم حاليا بمراجعة شاملة لسياستها الخارجية وبدأت تعيد ترتيب أولوياتها من جديد وفق ما تقضي به «نظرية صفر مشاكل مع الجيران» والتي كان أحمد داوود أوغلو، استاذ العلاقات الدولية الشهير ورئيس وزراء تركيا السابق، قد صاغها وحاول تطبيقها في مرحلة سابقة؟ أظن أن هذا الاحتمال لم يعد مستبعدا وبات واردا بشدة، ولذا فربما تشهد الأيام والأسابيع والشهور القادمة تغييرات أكثر إثارة في سياسة تركيا الخارجية. من المعروف أن الرئيس التركي السابق عبد الله جول هو من بادر بتعيين أحمد داوود أوغلو مستشارا سياسيا له في نهاية عام 2002، وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأ نجم هذا الأستاذ المرموق، والذي منحته أوساط إعلامية لقب «كيسنجر الشرق الأوسط»، يبزغ ويرتفع عاليا في سماء السياسة التركية، خصوصا بعد تعيينه وزيرا للخارجية في صيف عام 2007. فبعد تولي رجب طيب أردغان رئاسة الدولة أصبح أحمد داوود أو غلو «رجُل أردوغان» وصفيه وخليله المؤتمن على رئاسة الحزب والحكومة. ولأن ألاعيب السياسة لا تساعد على الاحتفاظ بعلاقات صداقة دائمة، سرعان ما دبت خلافات بين الرجلين انتهت بتخلي أوغلو، ربما مرحليا، عن مناصبه الرسمية، ومع ذلك ظلت نظريته «صفر مشاكل» تحتوي على الكثير مما يغري بمحاولة تطبيقها، سواء في وجود صاحبها أو في غيابه. كان تطبيق «نظرية صفر مشاكل» قد حفز تركيا على الانفتاح على كل جيرانها في المنطقة، حيث قام عبد الله جول عام 2003، وكان رئيسا لوزراء تركيا وقتها، بجولة إقليمية شملت سوريا ومصر والأردن والسعودية والكويت وإيران، استهدفت منع شن الحرب على العراق. وقد تواصل هذا الانفتاح على مختلف دول المنطقة العربية بنجاح دفع القمة العربية المنعقدة في الخرطوم عام 2008 لتوجيه الدعوة إلى أردوغان الذي شارك أيضا في قمة سرت عام 2010. لكن سرعان ما كشفت «ثورات الربيع العربي»، والتي كانت قد بدأت تندلع تباعا في عدد من الدول العربية مع نهاية عام 2010 عن قناع أيديولوجي تخفت وراءه السياسة التركية. فبعد أن تمكنت بعض فصائل «الإسلام السياسي» من الوصول إلى السلطة في عدد من الأقطار العربية داعبت أحلام «الخلافة العثمانية» خيال أردوجان الذي راح يلقي بثقل تركيا للتمكين لهذه الفصائل في الدول العربية التي هبت عليها رياح الثورة؛ اعتقادا منه أن تركيا، الدولة «السنية» القوية المرتبطة سياسيا بالغرب عبر حلف شمال الأطلسي هي المرشح الطبيعي لقيادة المنطقة. وسرعان ما قادته هذه السياسة إلى تبني مواقف تطالب بالتخلص من نظام بشار الأسد، فاندلع الصدام ليس فقط مع النظام السوري وإنما مع حلفائه أيضا في إيرانوالعراق ولبنان وغيرها، وبدأت تركيا تفتح أبوابها وحدودها لكل من يرغب في التخلص من نظام بشار الأسد، فانتهت سياسة «صفر مشاكل» وبدأت تحل محلها تدريجيا سياسة «مشاكل للجميع ومع الجميع»، وهي السياسة التي أدركت تركيا مؤخرا أنها دخلت في مأزق وبات عليها ان تعيد ترتيب أولوياتها من جديد، فبدأت باتفاق للمصالحة مع إسرائيل. ويضير الفحص المدقق للاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل يوم 26 يونيو الماضي إلى إقدام تركيا على تقديم الجزء الأكبر من التنازلات التي سمحت بإبرام هذا الاتفاق، خصوصا ما تعلق منه بالقضية الفلسطينية التي بدت تركيا حريصة على توظيفها لصالحها.. فقد تضمن هذا الاتفاق: 1- تعهد إسرائيل دفع تعويضات، تبلغ قيمتها 20 مليون دولار، لعائلات ضحايا سفينة «مافي مرمرة» من الأتراك، في مقابل سحب تركيا دعاوى قضائية رفعت في محاكم تركية ودولية ضد الضباط والموظفين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب الحادث. 2- تخفيف الحصار على قطاع غزة، بالسماح بايصال المساعدات الإنسانية، عن طريق ميناء أسدود الإسرائيلي. 3- السماح لتركيا بإقامة محطة توليد كهرباء، ومحطة تحلية مياه، ومستشفى كبير داخل قطاع غزة تحت إشراف دولي. 4- تعهد تركيا بمنع حماس من استخدام الأراضي التركية في الهجوم على إسرائيل. 5- اعادة تبادل السفراء بين البلدين، والتعاون الاقتصادي بين تركيا وإسرائيل. 6- استئناف التعاون الأمني والاستخباراتي بين تركيا وإسرائيل. ويتضح مما تقدم أن تركيا لم تحصل من إسرائيل سوى على تنازلات شكلية تسمح لها بتقديم بعض المعونات الإنسانية للمحاصرين في قطاع غزة، مع استمرار تحكم إسرائيل في عملية تدفق هذه المعونات التي يشترط أن تمر عبر المنافذ الإسرائيلية. أما الموقف الإسرائيلي المتعنت من الحصار المفروض على قطاع غزة ومن التسوية السياسية المطلوبة فقد ظل دون تغيير. فسوف تستمر إسرائيل في بناء المستوطنات وهدم منازل الفلسطينيين وسرقة مياههم..الخ. وما ينطبق على الاتفاق بين تركيا وإسرائيل ينطبق، ربما بصورة أوضح، على المحاولات التركية الرامية لتطبيع علاقتها مع روسيا الاتحادية. فتركيا هي التي سعت وبادرت وقدمت اعتذارا سمح بإطلاق عملية لإعادة تطبيق العلاقات بين البلدين، في تأكيد جديد على أن السياسة الخارجية التركية هي التي تتغير وتعيد ترتيب أولوياتها. تشير تقارير عديدة إلى أن الدافع وراء هذا التغيير اقتصادي بالدرجة الأولى، وله صلة وثيقة بملف الغاز الطبيعي. فروسيا تعد مصدرًا أساسيًّا لاحتياجات تركيا من الغاز، وتأزم علاقات تركيابروسيا دفعها للبحث عن بديل ملائم وآمن للغاز الطبيعي للتحرر من قبضة الضغط الروسي، فولت وجهتها نحو إسرائيل التي كانت تحتاج بدورها لإبرام عقود طويلة الأجل لتصدير الغاز المتوافر لديها الآن بكميات ضخمة، والاستفادة من تركيا ليس فقط كمستورد للغاز ولكن أيضا كبوابةً لتصديره إلى أوروبا. ولم يكن تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا بمنأى عن روسيا التي طبّعت علاقاتها مع تركيا بعد أقل من يوم واحد. ويرى بعض المراقبين أن إقدام روسيا على تطبيع علاقاتها مع تركيا بهذه السرعة يعود إلى مخاوف تتعلق باحتمال استيلاء إسرائيل على سوق الغاز التركي بالكامل، بعد أن كانت روسيا في المقام الأول، وإلى رغبة روسيا في المحافظة على مشروعات استراتيجية في مجال الغاز الطبيعي سبق الاتفاق عليها مع تركيا التي كانت قد أصبحت بالفعل بوابة لتدفق الغاز الروسي إلى أوروبا. يتساءل العديد من المراقبين الآن عما إذا كان التحسن الذي طرأ على علاقة تركيا بكل من إسرائيل وروسيا قابل للتكرار مع مصر. ويتضح من حوار أجرته قناة «تي آر تي» التركية الرسمية يوم 28 يونيو الماضي مع بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي، أن تركيا تبدو راغبة في تطوير علاقاتها الاقتصادية بمصر ولا تعترض عقد لقاءات بين مسؤولي البلدين لبحث آفاق التعاون الاقتصادي، لكن يبدو أن تركيا لا تزال تتمسك بموقفها الرافض لما جرى في 30 يونيو و3 يوليو وتعتبرهما انقلابا عسكريا. وقد ردت الخارجية المصرية على تلك التصريحات مؤكدة على أن تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا تتطلب أولا اعتراف تركيا بنظام 30 يونيو في مصر. ولا جدال في أن علاقات تركيا بمصر تبدو اليوم أكثر تعقيدا من علاقتها بكل من روسيا وإسرائيل. فتركيا لا تزال تقدم دعما سياسيا وماديا لجماعة الإخوان المسلمين التي يعتبرها النظام المصري أعدى أعدائه، وهو ما يعد تدخلا في شئون مصر الداخلية من وجهة نظر النظام المصري. لذا لا أتوقع حدوث اي تحسن في العلاقات المصرية التركية إلا إذا حدث تطور درامي على إحدى جبهتين أو على كليهما: الأولى: جبهة العلاقة بين النظام الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين، بالاتفاق على صيغة تسمح بإعادة إدماج من لم يتورط من الجماعة في أعمال عنف ضد الدولة، وتمكينه من المشاركة في الحياة السياسية. وما زال حدوث تطور في هذا الاتجاه امرا مستبعدا في الوقت الراهن. الثانية: جبهة العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان، بتخفيف تركيا من حجم الدعم الذي تقدمه لجماعة الإخوان والامتناع عن تحريضهم للقيام بعمليات تخريبية في مصر. وفي تقديري أن حدوث تطور في هذا الاتجاه يظل هو الاحتمال الأرجح في الوقت الراهن. لا أعتقد أن الاعتبارات الاقتصادية هي الدافع الرئيسي وراء إقدام تركيا على إعادة ترتيب الأولويات في سياستها الخارجية، ولن أفاجأ كثيرا إذا أظهرت الأيام والأسابيع والشهور القليلة القادمة أن تركيا قد غيرت موقفها كليا تجاه الأزمات السياسية الحادة التي تجتاح المنطقة، بدءا بالأزمة السورية وانتهاء بالأزمة مع مصر.