هل نعيش في مجتمعٍ نزيه؟ وكيف ذلك؟ النزاهة ليست مصطلحات رنانة تُكتب فتعلق على الجدران أو تردد في التلفزة والإذاعات، وليست تحذيرات أو تنبيهات تنشر ل (يُعذر من أنذر) ليست كل ذلك أو ذاك. إنها قناعات وسلوك وعادات تُشرب مع (فسحة الحليب) في المدارس ويراها كل طالب صغيرٍ أو كبير في أستاذه، وهو يقدم مادةً علميةً نقية الحروف واضحة الأهداف، وفي نظرات معلمه وهو يصغي إليه ويعيره كل انتباهه ولا ينشغل عنه ب (رنة رسالة) في جواله أو (سالفة) يُكمل أحداثها مع صديقه (الأستاذ)، الذي دخل قاعة الدرس فجأة ليكملها ثم يعقب بضحكات. إن النزاهة تطبيق في العمل والمشفى وفي الجامعة والجامع، وفي الحي الصغير المتواري تماماً كما هو الحال في الحي الكبير الراقي، وفي الشارع النحيل كما هو في الشارع ذي المسارات المتعددة، وفي الخدمات بشتى أنواعها. النزاهة وِراثة، ومع تقادم الزمن وانتشار مصطلح (مالي دخل) و(لا تدخل نفسك) تتلاشى معالمها حتى يصبح النزيه غريباً في عالمٍ طغت عليه الأنانية أحياناً، والخيانة أو التغافل أحيانا، بل أصبح النزيه مثاراً للسخرية والتندر. لا تربطني معرفة بأحدٍ -من بعيد أو قريب- يعمل في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لكني كغيري أقرأ وأسمع عبارات التوجيه أو التحذير، وبعض الإحصاءات والتقارير وأعلم يقيناً أن المهمة متعبة ومضنية وحساسة ولا يزال المأمول أكبر من الواقع، والمهم هو محاولة التغيير للأفضل ولكن كيف؟ أبالعبارات والتوجيهات أم بالمتابعة والتقصي؟ لا أغفل أبداً أهمية ذلك، ولكني لا أراه الأصل في تحقيق (النزاهة) وكي لا أعود لسابق ما كتبت أأكد على تحقيق ذلك من خلال نشر (ثقافة النزاهة) بأربع وسائل، وهي: عقد ندواتٍ أو دورات يلتحق بها كل موظف، وإلزام كل موظف جديد باجتياز (دورة نزاهة)، واستحداث وظيفة (مشرف نزاهة) في كل إدارة حكومية، ويكون ذا صبغةٍ اعتبارية وإضافة مادةٍ دراسية منذ الصف الأول الابتدائي باسم (النزاهة) يرشح لها معلمٌ اجتاز دورات متخصصة في تعليم وتقديم هذه المادة بكل مثالية وانتماء. ليست النزاهة حلماً أو خيالاً، بل هي ممارسات راقيةٌ لها انعكاساتٌ جميلة لعل من أبسطها وأكثرها وضوحاً تحقيق العدل والمساواة، فالنزيه صادقٌ منضبط ولأنه كذلك فهو يظهر في الوقت المناسب ولا يتوارى عن الأعين وكأنه (لم ير شيئاً)، والنزيه يعي جيداً ما يقول وما يفعل وإذا وعد وفّى بوعده، فهو شخص متزن غير متناقض، والنزيه يرحب بالتواصل مع الجميع لكي يؤكد مبدأ الوضوح والشفافية وليس أبداً مكاناً للشك والريبة، والنزيه مدركٌ للنظام ويعرفه جيداً، ولذا فهو يطبقه لكي يحقق العدل، فليس مجحفاً أو ذا ميول كما أنه غير مستغلٍ لطبيعة عمله في تحقيق رغباتٍ أو وساطاتٍ، والنزيه يوجه وينصح بحكمة ويصحح الأخبار المغلوطة، ولا يتستر على السيئين أو يقبل الشائعات، والنزيه يُصلح الخلل بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين، كما أنه مبادرٌ للتغيير ومحبٌ للتطوير ومقبل على ذلك بجدية، فلا يتعجل في التطبيق فيفقد الثقة أو يتهاون فيفقد الصدق، والنزيه بابه مفتوح يستمع للآخرين، معترف بالخطأ ويجعل من الأخطاء فرصاً للتحسين بدل أن تتكرر مرتين! وأخيراً، فإن النزاهة تحقق الثقة والإنجاز، بل وتحقق النجاح.