ما من معنى أجمل في رمضان إلا أجواء ما قبل رمضان والاستعداد له، هذه اللحظات ما زالت تذكرني بجدي، رحمه الله، وكم في ذكريات الأجداد من لحظات وتأملات بل هي رحلة تقف بها حول ميراث من الخبرات المتراكمة والخيرات المتوارثة فقد علمني كيف يكون رمضان شهراً للإحسان والبذل والاحساس بالفقير والمتعفف، بل شهرا لولادة الإنسانية ودفن الأنانية، فالذكريات معه تبدأ بجمع الأعطيات والأرزاق وتوزيعها على المحتاجين، وما من معنى يذكرك به إلا شموخ الإحساس أن الصائم قريب من رمضان والذي تبدأ منه قصة الإحسان والجود والإكرام. وستكون لنا بقرب رمضان هذا العام حكايات كثيرة خاصة مع الصيف وطول الإجازة، فالسؤال المهم ما هو التخطيط والاستثمار الناحج مع بدايات رمضان، وسوف نردد مع الناس قريبا في رمضان ماذا سنصنعه لنرى ونحس بروحانية ونكهة رمضان؟ وهل رمضان شهر للموائد أم ميدان لتشمير السواعد والانطلاق في تحد وتغيير للأفضل فلماذا التغيير؟ إن غايات الصيام تقوم على اقتطاف الفرص، فرمضان فرصة للتغيير لأنه تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، هذا جهاد شاق يعوِّد الصبر والتحمل، ويعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويعد الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها ومرها وسائر متقابلاتها ليجعل منه رجلاً كاملاً في عقله ونفسه وجسمه يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه، والإنسان إذا تحرر من سلطان المادة اتخذ لنفسه جُنَّةً قوية تحصنه ضد الأخطار التي ينجم أكثرها عن الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء والمصطفى عليه الصلاة والسلام قال:«الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم». لذا غدا في رمضان فرصة لسجن الشهوات واتجاه نحو رب السماوات، فالصائم الذي يمتنع عن المحرمات وعن الحلال الذي تدعو له الشهوة إنسان عزيز كريم، يشعر بآدميته وبامتيازه عن الحيوانات التي تسيِّرها الغرائز، فالتغير الذي يصاحب الإنسان في رمضان ظاهر في كبح جماح النفس وتربيتها بترك بعض العادات السيئة وخاصة عندما يضطر المدخن لترك التدخين -ولو مؤقتا - على أمل تركه نهائيا، وقريبا في رمضان يجدد الصائم اتفاقية أخلاقية مع الناس فنجده ينثر عطور التسامح، تسامح يخلصنا من ماضي البغضاء إلى حاضر الصفاء، تسامح ينثر معه الإنسان أجمل ما عنده من حب بين الأخوين، والزوجين، والجارين، بل ينثر زهر التواضع وخفض الجناح ولين الجانب، وبالتالي يعرف الإنسان قدره ويحس بضعفه، ومن عرف قدر نفسه تفتحت له أبواب الخير واستقام على الهدى. وفي رمضان يدخل المجتمع في دورة صحة نفسية، فمدرسة الصوم وما يصاحبه من الناحية النفسية تشعر الصائم بالطمأنينة والراحة النفسية والفكرية ويحاول الابتعاد عما يعكر صفو الصيام من محرمات ومنغصات ويحافظ على ضوابط السلوك الجيدة مما ينعكس إيجابا على المجتمع عموما، وصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام:«الصيام جُنّة، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وان امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم». وقد أثبتت دراسات عديدة انخفاض نسبة الجريمة بوضوح في البلاد الإسلامية خلال شهر رمضان، كأن القرآن وبكل لطف ينبه المسلم إلى أن الحكمة من المشروعية هي حصول «التقوى» وهي الحكمة الشاملة التي غطت على جميع الحكم من الجانب الصحي «صوموا تصحوا» أو من الجانب المادي وغيره لأن التقوى جماع الخير كما قال الشافعي: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد فهل سيكون لنا بقرب رمضان وقفة لمراجعة الإنسان نفسه، ووقفة أخرى لتغيير الأحوال بالناس ورب الناس؟