إحدى أكبر علامات الاستفهام حول الاستفتاء الذي يلوح في الأفق في بريطانيا هي مقدار رأس المال الذي قد يهرب من البلاد إذا ما قررت بريطانيا أن تغادر الاتحاد. بحسب الوضع الحالي، أداء المستثمرين الأجانب في بريطانيا هو أفضل من أداء المستثمرين البريطانيين في الخارج، وكان هذا الاستثمار محركا كبيرا في اقتصاد المملكة المتحدة. كما أنه يساعد على تفسير لماذا هناك الكثير من القلق بشأن العجز المتنامي في الحساب الجاري في البلاد- الفجوة بين ما تدفعه بريطانيا للأجانب وما تتلقاه. الاقتصاد البريطاني هو واحد من أقوى الاقتصادات في أوروبا من حيث النمو. ولكن في عام 2015 بلغ عجز الحساب الجاري في البلاد رقما قياسيا، وهذا يعني أن المال الذي كان يخرج من المملكة المتحدة أكثر من المال الداخل إليها. بعد اتساعه لمدة أربع سنوات متتالية، بلغ العجز 32.7 مليار جنيه استرليني (46.47 مليار دولار) في الربع الرابع– وهذا يمثل 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى من اقتصاد أي دولة متقدمة. العجز الكبير في الحساب الجاري ليس بالضرورة شيئا يدعو للقلق. قد تدير البلدان عجزا كبيرا إذا كانت تنفق بشكل كبير للنمو في المستقبل، أو تتعافى من الكوارث الطبيعية. وبالنسبة لبريطانيا، فإن ذلك يشير أساسا إلى أمرين: أن بريطانيا لا تزال مكانا جذابا للغاية للمستثمرين الأجانب، وانها تعيش فوق إمكانياتها. رؤوس الأموال تتدفق بشكل طبيعي إلى المناطق التي يمكن للمستثمرين الحصول فيها على عائد أعلى، وأداء الاقتصاد البريطاني كان جيدا عند قياسه بأداء أكبر شريك تجاري لها، وهي أوروبا. ولكن تفاقم العجز في الحساب الجاري جاء إلى حد كبير من الانخفاض في صافي الدخل من الاستثمارات البريطانية في الخارج. وهذا يعني أن الدخل المدفوع إلى الأجانب على استثماراتهم في بريطانيا يفوق المبلغ الذي تتلقاه بريطانيا على استثماراتها في أماكن أخرى. كانت المملكة المتحدة منذ فترة طويلة تستورد السلع أكثر مما تصدر، في حين أنها تقوم بإدارة فائض في الخدمات، وذلك بفضل القطاع المالي الكبير. ولكن هذا لا يزال يعني مرة أخرى أن البريطانيين يستهلكون أكثر مما ينتجون. مهما حدث من عمليات شد الحزام بعد الأزمة المالية يبدو أنه قد اختفى. استهلاك الأسر البريطانية كان يتوسع، مع زيادة كبيرة في القروض الاستهلاكية، في حين أن المدخرات هي الآن عند أدنى مستوياتها التاريخية والاستثمار في السلع القابلة للتداول قد انخفض. إحدى الطرق التي يقوم بها البريطانيون لتمويل جميع الانفاق هو من خلال الاستثمارات من الخارج. اقتصاد المملكة المتحدة يعتمد بشكل كبير على ازدهار المبيعات الراقية للعقارات في لندن من قبل المشترين الأجانب، كما أوضح جان ميشيل بول في مقاله حول هذا الموضوع (نشر المقال مؤخرًا في صحيفة «اليوم»). وقد وصلت أسعار المساكن الآن إلى مستويات بدأت تبدو وكأنها فقاعة. أي صدمة - والخروج من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يعتبر صدمة - من المرجح أن تخفض التدفقات الأجنبية إلى سوق الإسكان. كل هذا يترك بريطانيا تعتمد على «عطف الغرباء»، كما قال محافظ بنك انجلترا مارك كارني في وقت سابق من هذا العام: «البيئة العامة العالمية أصبحت أكثر حرارة وأكثر تقلبا والاعتماد على عطف الغرباء ليس الأمثل في هذا النوع من البيئة - وهذه هي الحال عندما تقوم بتشغيل عجز في الحساب الجاري يبلغ 4 إلى 4.5 في المائة». يمكن للمستثمرين الأجانب أن يكونوا متقلبين، وخصوصا عندما يهتز المركب. في الأزمة الآسيوية عام 1997، اقتصادات البلدان التي عانت كثيرا كان لديها أكبر عجز في الحساب الجاري- وهذا يعني أن الواردات بالإضافة إلى الدخل المدفوع للأجانب تجاوز الصادرات والعائدات على الاستثمارات الأجنبية والتحويلات الأخرى. في الأزمة المالية الأخيرة، كانت الدول الأوروبية التي لديها أكبر عجز في الحساب الجاري هي الأكثر تضررا، حتى بدون وجود تحول كبير في ميزانها التجاري. ملاحظة واحدة مطمئنة بشأن العجز في بريطانيا: معظم الأموال التي تتدفق على البلاد، أو نحو 81 في المائة من صافي رأس المال الذي تدفق إلى المملكة المتحدة في عام 2014، هو الاستثمار الأجنبي المباشر الأكثر استقرارا، على المدى الطويل، وليس «الأموال المتداولة» على المدى القصير والذي يمكن أن ينعكس بسهولة في حالة الأزمة. لكن الثقة يمكن أن تتحول بسهولة، وحتى تقلب أسعار العملات قد لا يكون كافيا لاستعادة إحساس بالنظام. عجز الحساب الجاري البريطاني كبير جدا بحيث لا يمكن تقليله تدريجيا من خلال أسعار الصرف. انخفضت قيمة الجنيه بنسبة 25 بالمائة على أساس الوزن التجاري النسبي في عام 2008، ولكن كان الرد التجاري على ذلك متواضعا، في حين أن الولاياتالمتحدة أدارت انتعاشا تقوده الصادرات على الرغم من ارتفاع الدولار. ما لم تستثمر بريطانيا في قدرة تصديرية جديدة، فإن الانخفاض في قيمة العملة لن يقدم مساعدة تذكر. الاستثمار المستقر هو الحل على المدى الطويل. حتى بعد التصويت في الاتحاد الأوروبي، حماية الاقتصاد البريطاني من الصدمات ستعني أن وزير الخزانة البريطاني جورج أوزبورن يحتاج لأن يقلق أكثر حول العجز في الحساب الجاري ويقلق أقل حول عجز الموازنة، الذي استهلك جزءا كبيرا للغاية من اهتمامه خلال السنوات الخمس الماضية. الإنتاجية في بريطانيا لا تزال منخفضة، ولا تزال دافعا هاما للنمو الاقتصادي. التركيز الأحادي على الحد من العجز في الميزانية يعني أن الاستثمار في رأس المال البشري والبنية التحتية كان غير كاف. في غضون ذلك، فإنه من الصعب أن نرى أوروبا تسعى لإنقاذ بريطانيا. كما قال جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان، للمساهمين في خطاب سنوي له الأربعاء الماضي، فإن أفضل سيناريو لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي هو «سنوات من عوامل اللُّبس». لكن بطبيعة الحال، هناك أمور أسوأ كثيرا من عوامل اللّبس.