تكدسين حقائبك بالهدايا، تحصلين على تأشيرة الخروج، تنهين إجراءات السفر بفرح مؤجل منذ عشرة أعوام، أخيرا ستعودين لبيت العائلة. تصعدين سلم الطائرة تسبقك خطواتك المتلهفة، تجلسين ممتلئة بالحنين، تنظرين من النافذة الصغيرة المجاورة، ترين السحاب في كل مكان، تعلمين أنه هناك، تحت واحدة من تلك الغيوم بغرفه الفسيحة وأشجاره العالية ودفء أركانه. تتداخل حكايا الراكبين من حولك، لا تسمعين سوى صدى حكاياتك الحميمة، تعودين لداخلك، تزحفين على الممر الأخضر تحت قدمي أمك، تحملك بين ذراعيها. تزيل ما علق بثوبك من حشائش، وجهها يشرق حين تبتسمين لأول مرة، وتوزع الحلوى على أطفال الجيران حين تنبت أول أسنانك. ترتفع درجة حرارتك فيجافيها النوم، تمتد يداها نحو السماء، لآلئ دموعها تحفر أخدودا على وجنتيها، تخطين أول خطوة فتركض أحلامها مع قفزاتك المتقطعة، يتكدر صفو سمائها حين تتعثرين، وتتلقاك في أحضانها حين تنهضين، قبلاتها الدافئة تغسلك .. تطهرك .. تسمو مع أحلامك البعيدة. ترسم في كراسة الرسم وردة وتضعها في حقيبة المدرسة، تلف الساندويتش في ورقة بيضاء وتضعه مع زجاجة الماء في الحقيبة، تودعك على الباب، تسمعين دعواتها ترطب صحراء الوجود. تعودين إليها باكية، فقد جُرحت كفك وأنت تلعبين مع البنات، ترفع كفك الصغير، تمسح من فوقه تراب حوش المدرسة، تطبع عليه قبلة ليلتئم جرحك. تعودين إليها خائفة، ملابسك بها شيء أحمر اللون، تبكين أمامها، فأنت لا تدرين ما يحدث، تبتسم في خجل، تضمك إليها، وتهمس لك بأنك صرت كبيرة. تعودين إليها خجلى، تخبرينها عنه، يغمرها الفرح، تلبسك الثوب الأبيض، وتودعك على سلم الطائرة. تتهاوى طفولتك بعيدا عنها، لتنبت طفولة أخرى داخلك، وعندما تعودين في إجازة تنامين على سريرك القديم، وتنام هي بجوارك تطرد عنك أحلامك القاتمة. في الصباح تتسلل من السرير بهدوء حتى لا توقظك، تجلس على باب غرفتك تحرسك، تسند رأسها على الحائط، نقرات أصابعها الخفيفة على باب الغرفة توقظك. تقبلين يدها، وتعودين إلى براري طفولتك حينما تضعين رأسك في حجرها، وتغمضين عينيك لا ترين غير وجهها الباسم ولا تعلمين أنه يخفي ألم قلب يئن، تنتبهين لإشارة ربط الأحزمة، فينتفض قلبك شوقاً. ثلاث ساعات تفصلك عن بابه، على سلم الطائرة تصارعين الرياح، تتمنين أن تطيري معها لتتجاوزي الحواجز الجمركية، حقائبك تتقدم على السير أمامك، وتقترب معها ذكرياتك في بيت العائلة. على باب المطار لا تجدين وجهها أمامك، فلم يعد هناك أحد ينتظر قدومك، غربتك الممتدة عبر الأماكن والأزمنة تتوغل في حنايا روحك، تنذرك بمواسم الجفاف المقبلة. تستقلين سيارة وتخبرين السائق بالعنوان المحفور في ذاكرتك، تخرجين مفتاح البيت الذي تحتفظين به دوما في حقيبتك، تقبضين عليه، تدفئينه في راحة يدك المشتاقة لتفتح به باب بيت العائلة. تقتربين، تحاولين استعادة روائح الأمس فتأتيك الرياح فارغة منها، ومحملة بغبار جديد لا تعرفينه، قدمك المتوجسة تتحسس الأرض، شارعك كما هو بمنازله وأشجاره، لكنه يغرق في الظلام، تعبث به رياح باردة تخلو من أنفاس بشر تعرفينهم. قلبك ينتفض ويرتطم بقفصك الصدري، تلتصقين بالباب القديم، تضعين به المفتاح الذي يعصاك، تحاولين مرة أخرى، لكن الباب يرفضه. تدقين الجرس، وجه غريب يفتح لك، تنظر لك باستغراب، لا تعرفينها، ولا تعرفك، من الداخل تسمعين صوتا جهورا يستفسر، تسألك عن هويتك، تريدين دفعها من أمامك، وتتملكك رغبة في الاستغاثة بالصوت الجهورى ليخبرها عنك. تشعرين بغربتك مرة أخرى، تعطينها الحقائب المكدسة بالهدايا، وتعتذرين لها، تجرين قدميك اللتين تريدان الدخول، تنهرينهما وتجبرينهما مثلك على الرحيل، تغلقين يدك على المفتاح وتنصرفين، فلم يعد لديك تأشيرة دخول لبيت العائلة.