حين تتجول في وسط القاهرة، قد لا تسترعي انتباهك تلك المساحة الكبيرة، إنما المهملة، التي يشغلها قصر قديم مبني على طراز «الباروك» وتطل واجهته الغربية على شارع شامبليون، أحد أشهر الشوارع في منطقة وسط البلد، بينما تمتد واجهاته الثلاث الأخرى عبر ثلاثة شوارع جانبية مزدحمة بالبنايات العالية تحجب النظر عن مبناه العتيق، ناهيك عن ورش إصلاح السيارات والمقاهي المحيطة بسوره الحجري. ورغم ذلك كله، يظل المبنى تحفة فنية تأبى التهميش والذوبان وسط ذلك الكمّ من العشوائية المحيطة به. إنه قصر سعيد حليم باشا، أحد أمراء أسرة محمد علي، الذي يئن تحت وطأة الإهمال منذ سنوات طويلة، نسيان لا يشعر بمرارته الحقيقية سوى من تسنح له فرصة دخول القصر وتأمل تفاصيله. يتلمّس الزائر طريقه إلى الداخل بصعوبة، ولا بد أن يصعق أمام ذلك الكمّ من القمامة المنتشرة في أرجائه، تهوله الجريمة المقترفة في حق ذلك المبنى الذي يعدّ أحد نماذج التراث المعماري البديع للقاهرة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وفي خضمّ تلك الفوضى، يشمخ المبنى وسط حديقة من الأعشاب والأشجار المتروكة لمصيرها البائس. الكتابات الكثيرة على الجدران، بالطبشور، تذكّر بأن القصر كان، قبل سنوات قليلة فقط، مدرسة للمرحلة الإعدادية، وهي «المدرسة الناصرية»، إحدى أعرق المدارس في القاهرة وكان من خريجيها الصحافيان الشهيران مصطفى أمين وعلي أمين، إضافة إلى الفنان حسين فهمي. يتميز القصر بزخارف تمثّل نباتات وأشكالاً هندسية، وبالتماثيل المنحوتة على واجهاته، إلى جانب التفاصيل المعمارية والفنية الأخرى كالنوافذ والأعمدة والشرفات، إلى جانب العديد من الشعارات المزينة والمحفورات الأسطورية والأقنعة الحيوانية. يتألف القصر من طابقين، إضافة إلى القبو المكوّن من قاعة ضخمة ودهليز وبعض الملحقات الخدمية. أما الطابق الأول ففيه بهو كبير، يمتد بطول القصر من الشمال إلى الجنوب. ويتصدر البهو، من الجهة الشمالية سلم مزدوج ذو فرعين، تفتح عليه أبواب غرف ست. ويتميز القصر بفنيات معمارية مدهشة تظهر في الشرفات وحواجز السلالم. وقد بني هذا القصر بأمر من الأمير سعيد حليم، الابن الأكبر للأمير محمد عبدالحليم، ابن محمد علي باشا الكبير العام 1895، وصممه المهندس الإيطالي ذائع الصيت أنطونيو لاشياك الذي صمم قصر المنتزه، والأبنية الخديوية في شارع عماد الدين، والمقر الرئيس لبنك مصر في شارع محمد فريد وهو مشيد على مساحة4781 متراً مربعاً. وفي العام 1914، تحوّل القصر إلى «المدرسة الناصرية» العريقة، وظل هكذا حتى العام 2007 حينما أصدر محافظ القاهرة قراراً بضمّه إلى وزارة الثقافة من أجل ترميمه. ووضع القصر منذ ذلك الحين على قائمة المباني الأثرية في مصر، وبدأ جهد مشترك للمجلس الأعلى للآثار، والمكتب الاستشاري الهندسي المصري الفرنسي، وبإسهام من المهندس الفرنسي آلان بونامي المتخصص في إعادة تأهيل المباني التاريخية، بالإضافة إلى معهد بحوث التنمية الفرنسي في القاهرة، لترميم القصر وتحويله متحفاً لتاريخ القاهرة. وكان الطرفان المصري والفرنسي قد بدآ يستعدان لتنفيذ المشروع بإشراف الأستاذتين في كلية الهندسة بجامعة القاهرة دليلة الكرداني وجليلة القاضي. لكن الأقدار شاءت ألا يستكمل هذا المشروع. إذ ظهر مالك آخر للقصر، غير وزارة التربية والتعليم، لتتخذ قضية قصر سعيد حليم منحى آخر بعيداً من فكرة ترميمه. ويظل المبنى قائماً كما هو، منتظراً الفصل في تلك القضية التي لم تعرف ملابساتها بدقّة حتى اليوم. لكن المؤكد أنه تحفة معمارية مصرية في خطر.