التنويع الاقتصادي برنامج طموح التطلعات، ويسعى - ضمن أمور مهمة أخرى - لتحسين الروابط بين الآلة الإنتاجية للقطاع الخاص السعودي، التي قوامها نحو مليون منشأة صغيرة ومتوسطة وضخمة من جهة، وبين الخزانة العامة من جهة أخرى. وطلباً للوضوح، فالاقتصادات التي تعتمد على الإنتاج، تغذي خزائنها العامة من حصيلة الإنتاج كذلك؛ وإلا كيف نقول إننا سنخفف من الاعتماد على إيرادات النفط؟! لكن كيف؟. لعل التحدي الكبير أمام برنامج التنويع هو تنمية الإيرادات غير النفطية، لتنمو نمواً مطرداً، بشرط أن يكون مستداماً، حتى لا نخرج من "حفرة" إيرادات النفط المتذبذبة، لنقع في "دحديرة" إيرادات غير نفطية متقلبة! لكن ما هي الوتيرة الملائمة؟ أهمية السؤال تأتي من أن الآلة الإنتاجية للقطاع الخاص إن كنا لا نريدها أن تعتمد فقط على الطلب الحكومي الممول من قبل النفط، بل نريدها أن تَقلب منهجية ومرتكز عملها لتقتطع هي من إيرادات القطاع الخاص؛ فإن ذلك يعني بالضرورة أن ينمو النشاط الاقتصادي للبلاد بوتيرة متصاعدة، وبالتحديد في القطاعات غير النفطية، ولا سيما الخدمات. ويشترط أن يكون النمو الاقتصادي مستداماً حتى تتمكن المنشآت الاقتصادية من دعم الخزانة العامة من أرباحها المتصاعدة دون الضغط على مواردها المالية. وعليه، يمكن بيان أن ذلك يجب أن يستوفي شرطين أساسيين لازمين غير قابلين للتفاوض أو الاجتهاد أخذاً ورداً. الأول، الاعتماد على الموارد البشرية المحلية، لمراكمة الخبرة من جهة وللحفاظ على ما يدفع من أجور وما ينفق منها وما يدخر من تلك الأجور، ضمن دوحة الاقتصاد السعودي، وبذلك تشتغل آلية المضاعف المعطلة عملياً، فيولد الريال ريالات، لا أن ينتهي أمره بالنسبة لاقتصادنا بمجرد أن يحول إلى الخارج، وسرعان ما يُحول بمجرد أن يستلم الوافد راتبه حتى "يُصَدره" للخارج. والأمر الآخر لا أتحدث عن ضريبة القيمة المضافة، فذاك أمرٌ آخر. وأبدأ بسؤال: كيف ننوع مصادر خزانتنا العامة؟ بأن نحول خزانتنا العامة لتعتمد على مصادر إنتاجية وليس فقط ريعية، فالتحول من الريع للإنتاج يعني أن تساهم القطاعات الإنتاجية (غير النفطية) في إمداد الخزانة العامة بالمال. الثاني، السعي للإحلال محل الواردات (من سلع وخدمات) وفي نفس الوقت تنمية الصادرات، وهذا يأتي عبر أخذ نظرة شاملة للميزان التجاري (وليس السلعي فقط بل كذلك للخدمات)، وتحليله تحليلاً متعمقاً، وليس فقط من الناحية الإحصائية الوصفية فقط، بل لا بد أن ندخل في تفاصيل الأصناف المستوردة وكيف بوسعنا أن نحل محلها من إنتاجنا المحلي، وكذلك للسع والخدمات التي بوسعنا أن ننتجها محلياً. هذا الأمر بحاجة لبرنامج وطني بدعم سامٍ كريم، فهو ما سيجعلنا نبقي دولاراتنا، التي أخذت تتقلص نتيجة ضعف إيرادات النفط من جهة ولتعاظم وتيرة تحويل الأموال للخارج من قِبل العمالة الوافدة وغير العمالة الوافدة، وهو جهد، إن نجح في تنمية الصادرات غير النفطية بوتيرة متصاعدة، سيمكننا من جَلب ثروة جديدة. وهكذا، فيمكن القول إن تنمية الثروة الاقتصادية التي مصدرها الإنتاج تقوم أساساً على إنتاج ما نحتاجه ليحل محل الواردات، وكذلك ما يحتاجه الآخرون غير التصدير. وبالقطع، فليس ثمة تهيؤات أنه سيكون بوسعنا إنتاج كل شيء، بل سلع وخدمات نمتلك فيها ميزة من نوع أو آخر، ليس هذا فقط بل وبوسعنا المنافسة سعراً وجودة. إذاً، من منظور اقتصادي فشريان التروية الأساسي للتحول من ريع النفط إلى ريع الإنتاج يقوم على: 1. إحلال مواردنا البشرية محل الموارد البشرية الوافدة، فكل دولة تسعى لتنمية رأسمالها البشري، أي ثروتها من الخبرة والتألق والنجاح والانجاز والتجربة، هذه الثروة لن تجد دولة تصدرها، فهي السر والمكون الأساس لأي انتاج عبقري فيه بَزٌ للآخرين، بمعنى أن التحول من الريع إلى الإنتاج لا يمكن أن يعتمد هيكلياً على موارد بشرية وافدة ماهرة وعالية المهارة ومحترفة ومهنية، فهذه القدرات لا بد من سعودتها. بل إن حتى رغبتنا في زيادة "المحتوى المحلي" لن تذهب بعيداً إن لم ترتكز على موارد بشرية سعودية، باعتبار أن المكون الأهم للمحتوى المحلي هو ما يضيفه العامل المواطن، فإن كانت الإضافة من قبل عامل وافد فتلك إضافة مستوردة!. وهنا يبرز دور أساسي لهيئتين وليدتين، هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة، بل تعملان ليس في فضاء الاقتصاد الكلي دونما "بوصلة"، فالبوصلة لا بد أن تتجه جهة استهداف زيادة المحتوى المحلي، إذ إن نموه المتواتر يعني بالضرورة نمواً في القيمة المضافة التي تساهم بها القطاعات الإنتاجية غير النفطية. إذاً في كلمتين التحول من الريع للإنتاج هو مبادرة تتمحور حول النمو المستمر للمحتوى المحلي.