دخلنا تلك المزرعة ليلاً فأدهشتنا رؤية البَرَكَةَ الربانية في كل جزئية منها.. رأيناها؛ في أشجارها وخاصة نخيلها السامقات التي لامست قبابها عنان السماء وصافحت سعفاتها همسات النسيم الليلي.. وأشعلت قناديل الفَرحِ في دواخلنا تلك المصابيح المتلألئة هنا وهناك.. والتي تريك النخيل وكأنها مآذن أو كما قال شوقي.. وصيفات فرعون في ساحةٍ من القصر واقفات تنتظر الضيوف والزوار نوافير تعكس جمال أضواء المصابيح ومصابيح تنشر فرح النوافير ودغدغات المياه المتساقطة وكأنها في صوتها ضحكات محبوب أسعده لقاء محبه. التقت الأصالة بالحداثة بالمعاصَرة في هذه المزرعة.. فالزخرفات والبلاط والاسمنت والكهرباء و و... بجوار التراب والأشجار المظلة والمطلة في الوقت نفسه على رؤوس القادمين. هذه المزرعة هي مزرعة "الغدير" التي احتضنت حفل "ملتقى الشرقية" لتكريم أستاذنا الحبيب خليل الفزيع، بعد انتهاء عمله رئيساً لنادي المنطقة الشرقية الأدبي، استقبَلَنَا الأستاذُ ورجل الأعمال باسم الغدير، وتذكرت القول العربي المأثور: (لكلٍ من اسمه نصيب).. وقد احتوانا بابتسامته المضيئة وأشعرنا بالألفة من خلال بشاشته؛ وهو من المشهود لهم في محافظة الأحساء بالكرم والنخوة العربية الأصيلة ونجدة من يستحق النجدة بالمال أو بالحال أو بالمقال، وقد ضرب مثلاً أعلى في أخلاق الرجال أرجو أن يَحتذي به رجالُ الأعمال في كل المحافظات والمناطق، وخاصة أولئك الذين أتاحت لهم الدولة -أيدها الله- فرصاً استثمارية كبيرة، إذ عليهم واجب وطني لرفع مستوى مجتمعهم. كما يفعل الرجل (باسم الغدير) حفظه الله. وهو بالفعل كالغدير في شفافيته وصفائه وعذوبته ونفعه.. ولا أزكِّي على الله أحداً. شكراً لاستضافته هذه المناسبة، التي ضمت كوكبة من الأدباء والوجهاء؛ لتكريم (أبو الوليد) خليل بن إبراهيم الفزيع، هذه النخلة الأحسائية السامقة التي تتساقط رطباً جنياً وتطعم تمراً حلواً وتنشر ظلاً ظليلاً.. وخليل نبعٌ عذبٌ صافٍ في خضم بحر عارمٍ من المعرفة، خليل الفزيع بزغ نجمه في الستينيات الميلادية من القرن الماضي، وأنا وجيلي ما زلنا زُغبَ الحواصل. فجذب أنظارنا إليه لمَّا سمعناه يتكلم عن شخصيات أدبية وفلسفية وثقافية بهرت العالم وغيرته.. نسمعه يتكلم عن شارلز ديكنز، وجي دي موباسان، وديستويفسكي وأرنست همنجواي، والعقاد، وطه حسين، وغيرهم، فاستقطب أنظارنا وعقولنا فصرنا أنا ومجموعة من أصحابي (في الطرف) نقطع المسافة إلى الجشة التي تزيد على ثلاثة كيلو مترات - مشياً على الأقدام لعدم توفر وسيلة مواصلات - ونزوره في منزله الطيني المتواضع، وكأنه عندنا مكتبة الأسكندرية أو دار الكتب المصرية، وكان ينير لنا طرقاً كانت معتمة من ثقافة ذلك العصر، فأحببناه والتصقنا به وصار قدوة صالحة لنا، وهو آنذاك لا يزال في المعهد العلمي. خليل.. أستاذنا.. وحبيبنا ومن أخذ بأيدينا إلى الأدب، فشق لنا طرقاً واسعة في جريدة اليوم وإذاعة الرياض وعَرَّفنا بكثير من أدباء ذلك العصر الشرقيين والغربيين. وليلة الاحتفاء به هي (ليلة وفاء) لأستاذنا وأستاذ هذا الجيل الذي أنتمي إليه.. والوفاء سمة النفوس الشريفة، وما أحوجنا في هذا العصر المتصحر أن نتصف به وأن نعلمه لأولادنا. ولقد صدق الشاعر الأحسائي محمد الجلواح حين قال فيه: خليل وهل غير الفزيع خليلُ .. له القلب يهفو والحديث يطولُ له الحب كل الحب بحر ودوحة.. وشعر ونثر خالد وجميلُ يفيض وداداً من نقاء ومحتد .. ونبْل وهل بين الأنام نبيل له الفكر والإبداع سبقٌ وسابقٌ .. حريٌّ بما يُثنى عليه أصيلُ وأعود للأستاذ الباسم، لأسطر شكري وشكر تلك الكوكبة المتوهجة من الأدباء والشعراء والأحباب، منهم جاسم الصحيح، والجلواح، والحرز الشاعر، والحرز الناقد، والعساكر، ومن لم تحضرني أسماؤهم.. لقد ضرب أروع المثل في التواضع والتآلف والانتماء وحب الوطن. شكراً أبا أحمد وكثر الله من أمثالك. أبا أحمد إن المكارم تبتغي رجلاً كشخصك باسم القسمات في هذه الأمسية الرائعة بضيفها ومُضِيفها دليل حي على أن الأحساء بلد الوفاء والحب والتسامح والتآلف والوئام.. حفظ الله لنا هذا الخلق الإسلامي العريق.