أمام المناظرة الفكرية التي حصلت في مصر بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده حول فكرة التسامح، هناك من اصطف إلى جانب أنطون وأشاد بموقفه، ورفع من شأنه، وهؤلاء في الغالب هم من أصحاب المنحى العلماني، ومن المدافعين عن فكرة العلمانية في المجال العربي المعاصر، إلى جانب من اصطف إلى جانب الشيخ عبده وأشاد بموقفه، ورفع من شأنه، وهؤلاء في الغالب هم من أصحاب المنحى الديني، ومن المدافعين عن الفكرة الدينية في المجال العربي المعاصر. لكن ما يعنينا في هذه المناظرة ليس جانب الاصطفاف الفكري المتحيز، وليس جانب الغلبة والانتصار والتباهي به، بقدر ما يعنينا جانب الأفق الذي كشفت عنه هذه المناظرة، والأبعاد المهمة التي تجلت فيها، ومن هذه الأبعاد: أولا: جاءت هذه المناظرة وحركت جوا حيويا من النقاش الفكري والنقدي، وتحولت إلى حدث فكري بات يؤرخ له ليس في المجال المصري فحسب، وإنما في المجال العربي الحديث والمعاصر، هذا الحدث ظل حاضرا ويجري تذكره بصور مختلفة على امتداد المنطقة العربية شرقا وغربا، تأكيدا لأهميته وحيويته ليس لزمنه فحسب وإنما لزمننا كذلك. حيوية هذه المناظرة حصلت نتيجة تفاعل عناصر مشتركة، لها علاقة بعامل الأشخاص من جهة، وبعامل المكان من جهة ثانية، وبعامل الزمان من جهة ثالثة، فمن جهة الأشخاص جاء اشتراك الشيخ محمد عبده في هذه المناظرة فأكسبها زخما فكريا كبيرا، وأضفى عليها أهمية عالية، وجدية فائقة، وذلك لطبيعة الجانب الاعتباري لشخصية الشيخ عبده كونه مفتيا للديار المصرية آنذاك، والرجل الإصلاحي الأشهر في عصره، إلى جانب وزنه الفكري المميز الذي لا يكاد يقارن بأحد من أقرانه في عصره وما بعده. ولو كانت هذه المناظرة مع شخص آخر غير الشيخ محمد عبده، لاختلفت صورتها الذهنية، وتغيرت وضعيتها الفكرية، وتبدلت ذاكرتها التاريخية، وجرى التعامل معها بطريقة أخرى عند النقاد والمؤرخين، وهذا ما تنبه له فرح أنطون في زمنه، فقد أدرك أهمية ما طرحه بهذا الانخراط من الشيخ عبده دون سواه، وهي المناظرة التي تمناها أنطون لنفسه وهو الواصل حديثا إلى مصر حتى يعرف عن ذاته، وعن مجلته الحديثة العهد الجامعة. ومن جهة المكان، فقد حصلت هذه المناظرة في مصر، وبين مدينتين شهيرتين هما القاهرةوالإسكندرية، فالشيخ عبده كان مقيما في القاهرة، وفرح أنطون كان مقيما في الإسكندرية آنذاك، فحيوية بلد عريق ونشط مثل مصر، وحيوية مدينتين مثل القاهرةوالإسكندرية، اكسبت هذه المناظرة حيوية وتألقا وذاكرة، ولو حصلت هذه المناظرة في مكان آخر غير مصر لكانت لها وضعية مختلفة، فالمكان عامل مؤثر دائما من الجهتين قوة وضعفا، ظهورا وخفاء. ومن جهة الزمان، فهذه المناظرة حصلت في زمان يعد من أخصب الأزمنة الفكرية التي مرت على مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، فهو الزمان الذي يجري تذكره عند الأدباء والمؤرخين والمفكرين والنقاد بوصفه زمنا اتسم بالحيوية والنشاط والتنوع والانفتاح، فالحدث الذي يتصل بهذا الحال من الأزمنة يتأثر بحيويته وذاكرته. كما أن حيوية هذه المناظرة هي التي جعلتنا نتذكرها اليوم، ونستعيد الحديث عنها، لأننا نفتقد لهذا النمط من المناظرات الفكرية الجادة التي بإمكانها أن تخصب الفكر، وتفتح الأفق، وتنور الذهن، وتقدر حق الاختلاف، وتتجنب التسطيح والتجهيل والتبديع، وتترفع عن القضايا التي تكرس الخصومات والمنازعات والانقسامات على طريقة ما يجري اليوم بين أتباع مذاهب المسلمين. ثانيا: المدهش في هذه المناظرة أنها تعد أول مناظرة حول فكرة التسامح في المجال العربي الحديث، فلها من هذه الجهة وضعية خاصة ومميزة، هي وضعية المحاولات التي تحتفظ بحق السبق، وتنال منزلة المرتبة الأولى. كما أنها المناظرة التي لفتت الانتباه إلى فكرة التسامح في ساحة الفكر العربي والإسلامي، وجعلت هذه الفكرة في دائرة التذكر، وأرخت لحدث بات يرجع له ويستند إليه في الحديث عن هذه الفكرة، وبفضلها أصبح يعرف في تاريخ الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر وجود مناظرة حول فكرة التسامح. ثالثا: في هذه المناظرة قدم الشيخ عبده جهدا تأسيسيا مهما ولامعا لفكرة التسامح في الإسلام، جهدا أثبت وبرهن على أن فكرة التسامح ليست فكرة غائبة أو طارئة أو بعيدة ولا حتى ثانوية أو هامشية في الإسلام، وإنما هي من صميمه وتتصل بطبيعته وأصوله، وتسري في روحه، ومن ثم فهي فكرة ظاهرة ومتولدة وليست بحاجة إلى استظهار من خفاء، واكتشاف من عدم. وأهمية هذا الجهد يكمن في أن الشيخ عبده قد وضع أصولا للتسامح في الإسلام، وأصبح لدينا ما يمكن تسميته أصول التسامح في الإسلام، وهذه أول محاولة في تاريخ الفكر الإسلامي القديم والحديث والمعاصر يتم فيها اكتشاف وتأسيس وتقعيد أصول للتسامح في الإسلام. لكننا فيما وجدت لم ننظر لهذا الجهد بهذا الأفق، ونتعامل معه بهذه الرؤية، وإلى هذه اللحظة لم يحصل الالتفات إلى أن الأصول الثمانية التي وضعها الشيخ عبده وشرحها تمثل أصولا للتسامح، وتصلح أن تمثل أصولا للتسامح في الإسلام. رابعا: إن هذه المناظرة التي حصلت في مطلع القرن العشرين، ويمكن أن يؤرخ لها على أنها أولى مناظرات القرن في المجال العربي. هذه المناظرة وبعد ما يزيد على قرن من الزمان ما زالت هي قضية القرن الحادي والعشرين، وكأن هذه القضية لم تحصل في ذلك الوقت وقبل ما يزيد على مائة سنة، وكأن الحال بنا كان يتراجع ولا يتقدم، فمع القرن الحادي والعشرين تظهر قضية التسامح وتتأكد الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى!.