في عملية جلد قاسية للذات، يتناول كثير من الكتاب، قضية تقصير العرب في الحوار والانفتاح على الآخر. وإلى هذا التقصير يفسر كثير من سوء الفهم والمواقف، التي تنتهجها دول الغرب، تجاه قضايا العرب المصيرية. وتمارس عملية تبسيط ساذج، واختزال مغرق في سطحيته، يفسر مجمل السلوكيات والمواقف التي يقدم عليها الغرب من مختلف الشؤون العربية إلى جهل كبير وغياب في المعلومة.. وبالتالي، إلى غياب الوعي. والنتيجة وضع العرب، جميعا، في دائرة الاتهام بالتقصير عن أداء الواجب في التخاطب مع الآخر، وتوضيح وجهات نظرنا بطرق جلية ومقنعة. ومن وجهة النظر هذه، فإن الموقف الغربي المتحيز للكيان الصهيوني، مبعثه، تقصير العرب، في توضيح حقيقة صراعهم، مع الكيان الغاصب. وأن الحل في هذا السياق، هو التحرك الواسع، لشرح أبعاد القضية الفلسطينية، وتقديم شروح وافية.. وتفصيل التفصيل، وأن ذلك سوف يؤدي إلى وعي العالم عدالة قضايانا، ويغير المواقف، بما يؤدي إلى تغير المواقف السياسية، باتجاه تأييد حقوق الشعب الفلسطيني، في الحرية وقيام دولته المستقلة، فوق ترابه الوطني. وينسحب مثل هذا القول على الموقف من الحرب العالمية الحالية المعلنة على «الإرهاب»، التي تقودها الولاياتالمتحدةالأمريكية. فهذه الحرب تستهدف منطقتنا. ويقترح في هذا السياق، الاستعاضة عن نظرية سامويل هانتينجتون عن صراع الحضارات، إلى المطالبة بإحلال مصطنع «لحوار الحضارات» بديلا عن نظرية الصراع، لكي يعم الكون السلام والوئام، دون وعي بالقوانين التي تحكم العلاقات الدولية، التي يأتي في المقدمة منها صراع المصالح. بهذه الكيفية، تجري وتدار حوارات كثيرة في الفضائيات والصحف ووسائل الإعلام العربية الاخرى، وتسجل الإدانات في النهاية بحق «الأنا» العاجز عن مخاطبة «الآخر» باللغة المعبرة التي تليق بمقامه، ليضاف بذلك إلى سجلات تقصيرنا الضخم تقصير آخر. والواقع أن كثيرا من التحديات التي تواجهها الأمة في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ، في الداخل أو الخارج، لها صلة مباشرة بوعي العلاقة مع الآخر، وإقامة علاقات متوازنة، لا تكون عبئا علينا ولا تجعلنا نعيش خارج التاريخ وغرباء على الزمن الكوني الذي نعيش فيه. بديهي أن مفهومي الأنا والآخر، شأنهما شأن مجموعة كبيرة من تواؤمهما، يتسعان لكثير من الخلط والضبابية ومختلف التأويلات. وهما أيضا من المفاهيم التي ترفض صفة الثبات. فما دامت الأشياء من حولنا تتحرك، وما دام الكون في تغير مستمر، وما دامت تقاليدنا وعاداتنا ورؤيتنا لما يجري من حولنا في تطور دائم، فإن النتيجة الطبيعية أن تطرأ تغيرات مستمرة على رؤيتنا تجاه ذاتنا، «الأنا» وتجاه الغير، «الآخر». وعلى هذا الأساس، فإن ما نضعه من تعريفات لهذين المفهومين هو وليد اللحظة، وهو أيضا في جزء كبير منه يعكس الصورة الكامنة في وعينا.. إنه والحال هذه، جزء من متخيلنا. والصورة في الغالب، لا تستطيع أن تركز إلا على البؤرة التي يرغب فيها ويختارها حامل آلة التصوير. وإذن فهي ليست صورة الأنا أو الآخر، في حقيقتهما وواقعهما. إنها والحالة هذه لن تكون إلا اختراعا متماهيا مع حيلنا الدفاعية. هكذا فالآخر يمثل إسقاطات معاناتنا وانسحاقنا وتجاربنا المرة والطويلة مع الآخر. إن الأنا في حالتنا هي نقطة الارتكاز، ومنها نتجه إلى ما حولنا. فبلادنا الآن تواجه تحدي التطرف والعنف. وخلف هذا التحدي يقف فكر متزمت ومتحجر تجاه ما هو إنساني وخلاق ومبدع. إنه يتخذ موقفا سلبيا ومتشنجا من الآخر، الذي ربما يكون من جلدته. إن جل الأمر بالنسبة له هو مواجهة بين الخير والشر. والنظرة هنا عامة وشمولية، لا تميز بين العدو وبين الصديق، وترى في المجتمعات الإنسانية كتلا هلامية، اختارت أن تكون على الجادة الأخرى، في موقف معاد للعرب والمسلمين. إن هذه الإسقاطات، رغم سلبياتها، نتاج رحلة طويلة وقاسية، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، حين أخذت سنابك خيول البرتغاليين والأسبان والفرنسيين في تهشيم ما بناه الإنسان في هذا الجزء من العالم. بل ربما عادت بنا الذاكرة إلى قبل ذلك بوقت طويل، إلى الحروب الصليبية وإلى الجنرال اللنبي وهو يخاطب ضريح بطل الدولة الأيوبية: ها نحن عدنا يا صلاح الدين. وربما عادت بنا الذاكرة سحيقا إلى صراعاتنا مع الإغريق والرومان والدولة البيزنطية. بعد الحرب العالمية الأولى، كانت لنا تجربة مريرة مع سايكس بيكو ووعد بلفور، والسيطرة على المعابر الإستراتيجية، وقيام الكيان الصهيوني وعدوان 1956، وحرب يونيو 1967، وفتن وحروب شملت على الأغلب، كل شبر من أرض الأمة العربية. وفي كل سوح هناك قضية تعطي ما يحرض الوجدان، حتى وإن لم يجد ما يسنده عمليا ومنطقيا. إن هذه الإسقاطات، على الرغم منا، تظل معشعشة في اللاوعي، تفرض قوانينها الخاصة وأحكامها الجبرية علينا. إن المعالجة الواقعية لهذا الواقع المأزوم، في العلاقة مع الآخر، تقتضي التذكير بأنه من غير المجدي إسقاط معاناتنا على الآخر، وأن البديل، هو تفاعلنا الواعي مع هذا العالم الرحب، السائر نحو غاياته، رغم تضادها وتعدد مساربها. الأنا يقتحم السوق العالمية بصيغة التابع والمستهلك لما ينتجه الآخر، لأنه ليس لديه ما ينتجه. وقد آن له أن يكون جزءا فاعلا في ماكينة الإنتاج. إن الإمساك بناصية العلم، والولوج في هذا العصر الكوني، هو سبيلنا للخروج من قمقم الخوف والتردد، وهو الذي يصنع لنا هوية جديدة ومكانا لائقا تحت الشمس، ولن يتحقق ذلك بمجرد الحنين إلى الماضي، والبكاء على الأطلال. لا بد من التسليم بأن العالم لا يحترم الضعفاء. إن التاريخ السابق كان عصر صراع بين الإمبراطوريات والممالك ومن أجل المصالح، وقد أصبح الآن أعتى، حكم تغير مفردات القوة وتطورها. إنه الآن عصر الكارتلات والتجمعات الاقتصادية، والشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات. وإذا أردنا، أن نكون أسياد أنفسنا وأن نملك السيطرة على مصائرنا ومقدراتنا، فينبغي استيعاب هذه المسلمات، دون التفريط بحق أو استقلال أو سيادة أو مستقبل. لكن أيضا بوعي إيجابي منفتح على الثقافات الأخرى ومحرض على التفاعل مع كل ما تنجزه البشرية. إن الإسقاطات التي عانينا منها قد جعلتنا نختزل العالم بأسره في شرق وغرب، وأحيانا آخر، في شمال وجنوب. فنحن حين نتحدث عن الآخر، في الغالب لا نعني أولئك الذين يقفون معنا في خندق واحد مناصرين لقضايانا العادلة. إن شمولية النظرة إلى الآخر، هي عملية ملحة ومطلوبة. فهي أولا تحررنا من إسقاطاتنا، وهي ثانيا، تفتح وعينا على أمم تحث الخطى نحو التنافس الخلاق مع صناع القرار الكبار. إن الأنا والآخر، ليسا مرتبطين بالمكان فحسب, فكل تناقض وصراع في داخلنا يقسم خندقنا الواحد إلى أنا وآخر، ويحدث شرخا عميقا في بنية مجتمعاتنا، وكل اقتراب وتفاعل إنساني بيننا وبين النوع الإنساني في أي مكان من عالمنا من شأنه أن يقرب مسافات الاختلاف، ويخلق نوعا من التضامن والتفاعل لما فيه خير الجنس البشري. وكلما تقلصت المسافات بهتت مفاهيمنا ورؤيتنا السلبية عن الآخر. لا بد من موازنة بين التاريخ والجغرافيا، بحيث نتمسك بالثوابت التي ترسخت في مجتمعاتنا إثر بزوغ الإسلام، وبضمنها ثقافة التسامح وقبول الآخر، ومن خلال هذا الوعي نتمكن من اختزال الزمان والمكان، فنتمسك بكل ما هو إيجابي ومحرض في ثقافتنا ونعيش بالقلب والعقل في الزمن الكوني الذي نعيش فيه، وبغير ذلك لا محيص عن البقاء أسرى في شرانق الخوف والجمود والتخلف. وفي هذا السياق، تحضر جملة من الملاحظات: أولاها أن المجتمعات الإنسانية ليست كتلا هلامية. إن التقسيم الحاد ل «الأنا» و «الآخر» يفترض تجانس كل قطب من أقطاب المعادلة، على حدة وتنافر هذا القطب مع الآخر. وهذا في واقع الأمر فصل تعسفي ينقصه الوعي بوجود تناقضات ومصالح ورؤى وتوجهات مختلفة في المجتمع الواحد، وأن الأمر لا يمكن وضعه في كفة ميزان واحدة عن كل طرف. فهناك نسبة كبيرة من شعوب أوروبا تتعاطف الآن مع القضية الفلسطينية، وتجد في ممارسات الكيان الصهيوني تهديدا جديا للسلام العالمي، بينما تقف حكوماتها مؤيدة للمشروع الصهيوني. فهذه المجتمعات، ليست كتلا صماء، ولا هي متجانسة، بل تتفاعل إنسانيا مع ما يجري حولها، وتحدد مواقفها. وبعضها يحدد مصالحه، ضمن اعتبارات المصالح. وهذا القول عن «الآخر»، ينسحب أيضا على «الآنا» فهذا «الأنا» ليس مجتمعا ساكنا أو منسجما، ولا يعيش خارج التاريخ. إنه في القلب من هذا العالم يتأثر به ويؤثر فيه، وتحكم العلاقات بين أفراده وطبقاته قوانين الوحدة والتنافر، وهو أيضا خاضع لصراع المصالح واختلاف الرؤى. وهو بالإضافة إلى ذلك كله، يعيش واقعا غير طبيعي فرضه رسم الخرائط بين المنتصرين. إن ذلك يعني أننا أمام أكثر من أنا وأكثر من آخر. الأنا العربي تناقض بعضه مع بعضه الآخر في مواقفه، بشكل بات من المتعذر الحديث عن موقف واحد وأنا واحدة. وقد تعاظمت الشروخ وتعددت المنافذ، وتضاربت المصالح في البنيان الاجتماعي الواحد في معظم البلدان العربية. أصبح الآخر، يهيمن في القلب من الأنا، ويجد خطوطا عدة تدافع عنه... لم يعد ممكنا الفصل بين ما هو إنساني على أساس اعتبارات الأنا والآخر، وأن الأمر الذي يجب أن نواجهه، هو أننا لسنا قطبا واحدا في مواجهة قطب آخر، بل ان المواجهة هي في داخلنا وضمن شرائحنا، كما هي مواجهة في قلب الآخر وضمن شرائحه. ومن هنا يجب التمييز بين ما هو إنساني وقائم على أساس الاعتراف بالمصالح والتفاعل بين الشعوب، وبين رفض الاستغلال بكافة شرائحه ومكوناته وأصوله وجنسياته. الملاحظة الأخرى، هي أنه إذا سلمنا جدلا بأهمية تفعيل الحوار مع «الآخر» فإن هناك مشروعية أخرى لها أرجحية مؤكدة، هي حوار «الأنا». من خلال الحوار مع الذات. فليس من المنطق أن نتكلم عن حوار مع الآخر، دون أن نصلح بيتنا، ودون أن يتعمق الحوار في الداخل مع الأنا.. فذلك وحده هو السبيل للتعامل والتفاعل الإيجابي مع الآخر.