من الصعب مخاطبة الناس في ظرف انفعال وتوتر، وفي ظل سيادة الخطابات العاطفية والغرائزية، كما هو واقعنا اليوم، ومن السهل الانخراط في حالة الانفعال هذه، وسكب الزيت على النار، وركوب موجة الغرائز المنفلتة، والحصول على جماهيرية وشهرة من خلال استخدام مفردات التعبئة والتحشيد العاطفية، بعيداً عن قراءة الأحداث بشكل عقلاني، أو في إطار البحث الموضوعي عن الحقائق. الخيار السهل هو خيار كثير من الذين يطلقون على أنفسهم أو يطلق الآخرون عليهم لقب "مثقف"، وهؤلاء لا يفضلون التحلي بأي روح نقدية إزاء الأفكار والتصورات السائدة، أو الدخول في حوارات تتسم بالمحاججة المنطقية، بل يلجأون إلى استخدام الخطاب العاطفي، وترديد كلام انفعالي، لنيل تصفيق الجمهور. لا عيب بالطبع في أن تكون العواطف حاضرة، وليس المثقف خارج سياق الانفعال والتأثر بما حوله، كما أننا لا يمكن أن نتصور عقلانية محضة مجردةً تماماً من الانحيازيات العاطفية، غير أن المشكلة هنا تكمن في تهميش التصورات العقلانية بشكل كبير، والاتكاء فقط على المشاعر، ورص الكلمات المشحونة بالعاطفة في الخطاب باستمرار، والعاطفة هنا ليست حالة إيجابية على الدوام، إذ إن الكراهية وخطابها جزء من العاطفة، ولدينا اليوم مثقفون وإعلاميون يتكسبون من الانسياق خلف خطابات الكراهية وشحن الناس ضد بعضهم في مجتمعاتنا العربية، ولدينا نجوم تولد في الإعلام التقليدي والشبكات الاجتماعية، من رحم الانفعالات الغرائزية، عبر رفع الصوت عالياً لإثارة المزيد من العواطف. بعض المثقفين كانوا في الماضي يدَّعون نقدهم الأنساق السائدة، ومحاولتهم إبراز رؤى حديثة في مقابل ما هو سائد، غير أن إغراءات الجماهيرية لعبت لعبتها في خطابهم، الذي أصبح يستجدي رضا الجمهور عبر الانخراط في ترديد السائد، دون أدنى معالجة ثقافية وفكرية، وبشكل ساذج و"شعبوي"، فهم لا يريدون تمحيص الرواية السائدة، بل يأخذونها كما هي ويرددونها، بما ينهي دورهم الثقافي النقدي، ليصبحوا رقماً من أرقام هذه الرواية، وأحياناً نافخاً في نار الأزمات المشتعلة، والهدف في نهاية المطاف الحصول على المزيد من الجماهير المؤيدة والمشجعة، بدلاً من النقد ودفع الثمن جماهيرياً. ليست الغاية هنا الصدام مع الجمهور، فهناك من يحب الصدام مع الجماهير بفجاجة طلباً للشهرة، بل المطلوب هو تقديم وجهة نظر تستند إلى منطق وحجج وتصور عقلاني، يمكن التعبير عنه عاطفياً في بعض الأحيان، لكنه يصنع الفارق بين الشخص العادي، والمثقف القادر على صياغة الفكرة ضمن خطاب ثقافي رصين، والذي لا يخجل من معاكسة رأي الجمهور بحسب القدرة، وبما تسمح به الظروف، حين يجد أفكاره تصطدم مع رغبات وانفعالات الجماهير. أسهمت الشبكات الاجتماعية في إسالة لعاب المثقفين، من خلال وجود حالة جماهيرية واسعة، يمكن للمثقف استقطاب متابعين ومريدين منها، عبر الخطاب العاطفي، وهو ما جعل البعض يقع فيما انتقد غيره عليه سابقاً: الاستسلام لرغبات الجمهور.