يفقد المرء الصلة بالأشياء حين لا يجد لها معنى. وعندئذ يعزف السأم أنشودته المملّة. وبهذا المعنى يمكن اعتبار السأم بمثابةِ نقدٍ للواقع، وتعبيرٍ عن عدم القبول به. وهو بذلك يختلف عن السأم الذي ذكره زهير بن أبي سلمى في قوله: «سئمتُ تكاليفَ الحياة». وإذا كان زهير قد سئم لأنه عاش ثمانين حولا، فإن زوربا الإغريقي تمنى أن يعيش ألف عام. لكن هذا موضوع آخر. وإذا كان مصدر السأم انتفاء المعنى عند هذا أو ذاك، فإن المعنى نسبيٌّ ومتغير وفقاً لمستوى الوعي، وما يشكل أهميةً لفرد ما، قد يخلق حالةً من السأم عند غيره. لنستعرض مثالا حيا على ذلك: في مجلس عائلي، صاخب بالأحاديث والنكات، وعامر بدفء اللقاء، كان بين الحضور بنت صغيرة في العاشرة من العمر غارقة في عالمها الخاص، لا تشارك ولا تصغي لما يدور من أحاديث. سألها أحدهم من قبيل المزاح: لماذا أنتِ صامتة هنا وصاخبة مع صديقاتك؟ وجاءت الإجابة مختصرة وجافة: «كلامكم ممل»! ثم عادت إلى عالمها الخاص. كانت إجابة فظة. فالكبار لا يتكلمون بهذا الوضوح والمباشرة. قد يشعر أحدهم بالسأم من حديث ما لكنه «يتثاءب بفم مغلق» كما يقال. وهو أمر تفرضه اللباقة. لم يعلق أحد على كلامها، وربما اعتبره بعضهم طيشا. لكنها، وإن لم تحسن اختيار كلماتها، صادقة مع نفسها ومع السائل. فأحاديث الكبار لا تعني لها شيئا. لذلك تجد نفسها هناك في مجتمعها الصغير ومع صديقاتها، حيث الاهتمامات المشتركة. ونادرا ما يشعر بالسأم شخصٌ مندمج ومتناغم مع محيطه الاجتماعي والثقافي. ولأن السأم صفة إنسانية، فهو مقترن بمستوى الوعي. فالحجر الذي أشار إليه تميم بن مقبل موجود أيضا، لكنه وجود جامد ينقصه الوعي، لذلك «تنبو الحوادثُ عنه وهْوَ ملمومُ». إن السأم، والحال هذه، ترمومتر وعْيِنا بهذا الوجود.. وقل لي ماذا يُسْئِمك أقلْ لك من أنت. يرى بعضهم أن السأم حالة سابقة لأي مخاض إبداعي مثير للدهشة. ولأن علاقة العمل الفني والإنتاج الفكري بالواقع علاقة متوترة، وأن التناغم بينهما قد يكرس حالة من الثبات، فإن السأم إيجابي ومحفز على الإبداع. وهو إيجابي حين يكون تشبثا بالنقاء في أزمنة الانحدار. وقد يتحول السأم إلى انكفاء على الذات حين تصطدم خيارات المرء والتزاماته الأخلاقية بواقع مضاد لحقائقه الخاصة. وإذا تأملنا السأم من زاوية أخرى أبسط وأقرب إلى تعاملنا اليومي مع الواقع، فإن أول مثال يمكن أن يطرأ على البال هو سأم المثقف عندما لا يجد في ما يشاهده وما يسمعه ويقرؤه معنى يرضي ذائقته. السأم هو أن يقرأ العناوين نفسها، ويسمع الأحاديث نفسها، وأن يتنقل بين مئات القنوات التلفزيونية فلا يجد فيها ما يشده إليها. ويأتي السأم كذلك في شكل خلافات ومماحكات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويأتي على شكل برامج مجردة من المتعة والفائدة، ومسلسلات مملة كتلك التي سخر منها الفنان عادل إمام بقوله: «ثم ماتت رابعة، ومات الممثلون، ثم مات المنتج والمخرج، وعندما عرض المسلسل في التلفزيون مات المشاهدون جميعا». ويأتي السأم على شكل كوميديا رثَّة تستجدي الضحك، وبرامج حوارية موضوعها (الصوص والبيضة) وأيهما جاء أولا. وبعد.. إذا سئِمتَ، صديقي القارئ، أثناء قراءة السطور الأولى من هذا المقال فإن مضمونه لا يعني لك شيئا. وأعتذر لك عن الوقت الذي أضعتَه.