على مدى سنوات عديدة كانت الدول الغنية هي مصدر الصدمات الكبيرة التي تلقاها الاقتصاد العالمي، من أزمة القروض العقارية غير المضمونة في الولاياتالمتحدة، إلى الأحداث المثيرة المتكررة التي تتكشف عنها أزمة اليورو، إلى أفراح أبينوميكس (سياسات شينزو أبه الاقتصادية) وأتراحها في اليابان، أما عام 2015 فكان مختلفًا. فعلى الرغم مما كان من خوف من خروج اليونان الوشيك من منطقة اليورو، جاءت القلقلة الأكبر من الصين، التي عانت من انهيار مفاجئ في الثقة في صيف هذا العام، مما أثار ذعرا شديدا في عموم الاقتصادات الصاعدة. بل ووصل الأمر إلى أن تعلل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بحالة انعدام اليقين التي تسببت فيها الصين في إقدامه على تأجيل رفع سعر الفائدة في سبتمبر الماضي. وفي العام المقبل، كما في العام الجاري، يرى سيباستيان ميلابي، زميل أول بول فولكر للاقتصاد الدولي التابع لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، في تحليل نشره مركز الأبحاث الأمريكي، أن الصين ستكون السبب الرئيس في انعدام اليقين في الاقتصاد العالمي. ولو تبين خطأ توقعات صندوق النقد الدولي بنمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.6 في المائة في عام 2016 (بارتفاع طفيف عن نسبته البالغة 3.1 في 2015)، فلن يكون سبب تغيير هذه المحصلة عملًا جامحًا مصدره الاقتصادات الثرية. انظروا إلى الولاياتالمتحدة، وهي الأقل جموحًا من بين كل مراكز النمو الكبرى. لقد اتسع اقتصادها بنسبة مئوية محترمة تبلغ 2.6 في المائة في 2016 ويُتوقع لهذا الاقتصاد في العام المقبل أن ينمو بنسبة لا تختلف كثيرا عن هذه عند 2.8 في المائة. وبما أن التضخم ما زال دون المستوى الذي يستهدف الاحتياطي الفيدرالي، فلن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة إلا بحذر، مما يجنب الاقتصاد مخاطر تعرضه لصدمة مفاجئة. كما أن الديون بكل أنواعها (الاستهلاكية والتجارية والحكومية) مستقرة، ولا يلوح في الأفق ما يعكر الصفو. والأسواق المالية، التي بدت وكأنها تُنبئ بفقاعة في مستهل عام 2015، تبدو الآن رزينة نسبيًّا بعد مرور سنة امتنع فيها مؤشر ستاندرد أند بورز 500 عن إفساد ما تحقق من تقدم. شركات التكنولوجيا هي فقط التي تبدو مقيَّمة على أساس طفرة ليست عقلانية كل العقلانية. لكن كثيرًا من أشد مشاريع التكنولوجيا رواجًا هو ملك القطاع الخاص ولا يتحمل أعباء دين كبيرة، وحتى لو تعرضت قِيمها لتصحيح، فلن تكون هناك انتكاسة اقتصادية واسعة. تباطؤ النمو في أوروبا واليابان وتوقع سيباستيان ميلابي أن تشهد أوروبا واليابان نموا بوتيرة أبطأ، وعلى الرغم مما تواجهان من مشكلات اقتصادية مزمنة، فإنها لا تمثل تهديدا وشيكا، بحسب الباحث. وبعد تحقيق نمو بمعدل يقل قليلا عن 1 في المائة في عام 2014، حققت اقتصادات منطقة اليورو نموا بنسبة 1.5 في المائة في عام 2015، وستحقق أداء مماثلا في العام المقبل، بعد أن عززها انخفاض أسعار النفط، وانخفاض أسعار الفائدة، وضعف العملة الذي يعطي دفعة للصادرات، فيما أظهرت الاقتصادات التي تعرضت لأزمات من قبل، كإسبانيا والبرتغال وأيرلندا، تعافيا جيدا. صحيح أن مشكلة الديون الحكومية الضخمة في بعض اقتصادات منطقة اليورو تظل بلا حل، وأن مشكلة العملة المشتركة التي تستعصي على الحل (أسعار الفائدة التي تُعتبر عند بعض الأعضاء بالضرورة أعلى مما ينبغي وعند بعضهم الآخر أقل مما ينبغي) ستطل برأسها بقوة من جديد في مرحلة ما، لكن واضعي السياسات الأوروبيين اكتسبوا شيئا من المصداقية بعد أن برهنوا على إرادة سياسية لتجنب خروج اليونان من اتحاد العملة. واستبعد سيباستيان ميلابي أن يراهن المضاربون بكثافة على خروج أحد أعضاء منطقة اليورو، على الأقل ليس في الوقت الراهن. واعتبر الباحث موقف اليابان مماثلا. فمواطن ضعف البلد خطيرة، متمثلة في دين حكومي مخيف وشعب يزداد أعداد المسنين فيه على نحو يعوق النمو، لكن السلطات تحاول التصدي لهذه المشكلة على الأقل، حيث يبذل بنك اليابان ما في وسعه لتقديم حوافز اقتصادية، وفي الوقت نفسه يؤكد الباحث ضرورة أن تكون شراكة المحيط الهادئ بمثابة الآلية التي طال انتظارها لدفع الإصلاحات المعزِّزة للنمو. لا أحد يتوقع من اليابان اجتراح المعجزات، إذ سيكون معدل النمو في 2016 - المتوقع أن يبلغ 1 في المائة - أقل كثيرا من معدل النمو في الولاياتالمتحدة وأدنى قليلا من معدل النمو في منطقة اليورو، لكن نظرا لتواضع هذه التوقعات، فمن المستبعد أن يأتي أداء اليابان مخيبا بشدة للآمال. يتبقى لدينا الاقتصاد العالمي الكبير الآخر، وهو الصين، التي شهدت بالفعل تباطؤا حادا. فبعد أن حقق البلد نموا قارب 10 في المائة في المتوسط بين عامي 2006 و2014، لم ينم إلا بنسبة 6.8 في المائة في عام 2015، ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 6.3 في المائة في عام 2016. ولوضع هذه الأرقام في سياقها، يقول الباحث إن حدوث انخفاض بمقدار الثلث في معدل النمو يضاهي تجربة الولاياتالمتحدة في سبعينيات القرن الماضي، وقد كانت النتيجة في حالة الولاياتالمتحدة عقدا من التضخم المصحوب بركود اقتصادي وانهيار الثقة في الحكومة. لكن مثار القلق الحقيقي، برأي الباحث، هو أن التباطؤ في معدلات النمو في الصين يمكن بسهولة أن يتمخض عن المزيد من التباطؤ؛ ولهذا السبب تُعتبر الصين أوضح مصدر اضطراب للاقتصاد العالمي في السنة المقبلة. ولفت الباحث إلى أن الصين بنت ديناميتها، على مدى ربع القرن الماضي، استنادا إلى عوامل غير مستدامة، حيث كان نموها مدفوعا بالصادرات، وهناك - على الصعيدين التجاري والسياسي- حدود لمقدار ما يمكن أن يستوعبه العالم من منتجات صينية. كما استند نموها إلى تقليد التكنولوجيات والأساليب الغربية، وعاجلا أم آجلا ستكون هناك نهاية لهذا التقليد. وكان نموها مدفوعا بالديموغرافيا، حيث تمخضت سياسة الطفل الواحد، فضلا عن الانخفاض الطبيعي في معدلات الخصوبة الذي يترافق مع التحول إلى التصنيع، في تقليص نسبة الأطفال المعالين إلى العمال. لكن هذا المكسب الديموغرافي في طريقه الآن إلى نقض آثاره الإيجابية. فمع تحول انخفاض عدد الأطفال أمس إلى انخفاض عدد العمال اليوم، لا بد للنمو الاقتصادي من أن يعاني بالتزامن مع ذلك. دائرة مغلقة محفوفة بالخطر كما أقامت الصين ديناميتها على دائرة مغلقة محفوفة بالخطر، حيث يدفع الإنفاق المرتفع على الاستثمار معدل النمو إلى الارتفاع، فيزيد ارتفاع معدل النمو ثقة قطاع الأعمال ويحفز ضخ المزيد من الاستثمارات. غير أن الاستثمار لا يكون مستداما إلا إذا وجدت الطاقة الإنتاجية الناشئة عنه مستهلكين راغبين في استهلاك الناتج. وقد ضخت الصين فيما مضى استثمارات بشكل مسعور اعتمادا على فرضية إمكانية تصدير الناتج الفائض، لكن تلك اللعبة توشك أن تصل إلى منتهاها، بحسب الباحث،ومعظم الاستهلاك في المستقبل يجب أن يكون من جانب الأسر الصينية. يعتقد المتفائلون أن الصين ستدير هذا الانتقال بسلاسة، لكن هذا سيكون صعبا للأسف، على حد قول سيباستيان ميلابي، فالإنفاق الاستثماري أشد تقلبا من الإنفاق الاستهلاكي، فهو عرضة للهبوط بمعدل أسرع من معدل ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي. علاوة على ذلك فبما أن الإنفاق الاستثماري يمثل حصة ضخمة من الاقتصاد (وفقا لبيانات البنك الدولي، بلغت هذه الحصة 48 في المائة في عام 2013، مقارنة بنسبة 36 في المائة للإنفاق الاستهلاكي)، يكون الأثر مضاعفا، بمعنى أنه حتى إذا قابلت الانخفاض بنسبة 25 في المائة في الاستثمار قفزة مماثلة بنسبة 25 في المائة في الاستهلاك، فإن الأثر المجمع يعني تحقيق نمو سالب بنسبة 3 في المائة. وبفضل هذه العملية الحسابية الكئيبة، تفيق الغالبية العظمى من الاقتصادات كثيفة الاستثمار على الواقع بصدمة عنيفة. علاوة على ذلك فقد مُوّل نموذج النمو الصيني المدفوع بالاستثمار بكميات هائلة من الدين. وهنا من جديد نجد دائرة مغلقة غير مستدامة أمام أعيننا، حيث جمّعت البنوك المملوكة للدولة أرصدة ضخمة من مدخرات الأسر الصينية التي كابدت طويلا، وظلت تدفع أسعار فائدة منخفضة انخفاضا مصطنعا على هذه المدخرات، ثم وجّهت رؤوس الأموال الرخيصة هذه إلى الشركات ذات الارتباطات السياسية، التي لم تقصّر في الإغداق على الاستثمار في سرَف. وبما أن هذا الإقراض والإنفاق تواصلا بسرعة كبيرة، فقد كانا كافيين لاستدامة معدل النمو، الذي أبقى بدوره على التخلف عن السداد عند مستوى معقول. لكن ما إن يتوقف كل شيء، لن يعود بالإمكان سداد الديون. ستقفز معدلات التخلف عن السداد، وستتكبد البنوك خسائر. فإذا استجابت البنوك بالحد من الإقراض، فسيتباطأ النمو بدرجة أكبر وستقفز معدلات التخلف عن السداد أكثر. المحصلة برأي الباحث هي أن ما تشهده الصين من تباطؤ حاليا يجعلها عرضة لخطر المزيد من التباطؤ. وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن تنمو الصين في العام المقبل بمعدل 6.3 في المائة، فمن المنطقي أن نتوقع معدلا أقل كثيرا، قد يصل إلى 4 في المئة أو نحو ذلك. ويحتفظ صندوق النقد الدولي بتفاؤله النسبي لسبب وحيد، بحسب سيباستيان ميلابي، وهو أنه يتوقع أن تضاعف الصين رهاناتها على نموذج نموها المستند إلى الدين، بمعنى أن تقترض أكثر وتنفق أكثر. وأوضح الباحث أن هناك طريقين واضحين يمكن أن يحدث بهما هذا، حيث يمكن أن تتحمل الحكومة عجزا أكبر في الموازنة، مما يعطي دفعة للطلب وبالتالي النمو، أو يمكنها تكرار نمطها المعتاد، وذلك بأن توعز للشركات المملوكة للدولة بالاقتراض والإنفاق نيابة عنها. لكن أيا من السبيلين لا يمكن أن يجدي نفعا إلا مؤقتا، لأن كليهما يؤدي إلى زيادة في عبء الدين الصيني الذي ينذر فعلا بالخطر. ويقدّر مايكل بيتيس، الخبير في الاقتصاد الصيني، أن التزامات الحكومة المباشرة وغير المباشرة تبلغ أكثر من 200 ضعف إجمالي الناتج المحلي، وعلى الرغم من صعوبة المقارنات المباشرة فإن الرقم هذا يقترب من عبء الدين العام في اليابان المشهورة بديونها الثقيلة. وبإقدام الصين على تأجيل التباطؤ الحتمي في معدلات النمو، فإنها تفاقم مشكلة الدين التي تعاني منها وتجعل ساعة الحساب في النهاية أشد عسرًا. الخيار الأرجح للصين الخيار الأرجح الذي ستلجأ إليه الصين في عام 2016، وفقا ل سيباستيان ميلابي، هو أن تؤثر التسويف، وهذا التسويف سيؤتي ثماره. فستضخ البنوك القروض لصالح مشاريع البنية التحتية، وسيجتاز النمو عقبة ال6 في المائة، على نحو ما يتوقع صندوق النقد الدولي. لكن هناك على الأقل احتمالا أن يرى الناس هذه التدابير غير المستدامة على حقيقتها وأن تتسرب رؤوس الأموال إلى خارج البلد بأن تعثر على ثغرات في الستار الحديدي الذي تفرضه الدولة رقابةً على حركة رؤوس الأموال. ومهما يكن من حال، يرى الباحث أن الصين ستكون هي الاقتصاد الواجب مراقبته في عام 2016. فالبلد الذي دفع قاطرة النمو العالمي على مدى أكثر من عقد من الزمان يمكن أن يكون مصدر الصدمة الاقتصادية العالمية التالية.