مثلكم أنا، أتألم لما يطلق عليه (السعودة) وهو مجرد وهم خطير يهدهد الضمائر الحية، ويربت على أكتافها لتهدأ وتشعر بطمأنينة مؤقتة، تشبه راحة من يحك جرحه، وهو يزيده عمقا، سواء أكان ذلك في المستقبل الخاص للشاب والفتاة الضحية، أم المستقبل العام للوطن الذي يتطلع إلى التحول الوطني بكل آفاقه الشاسعة، في ظل التغير الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، بل العالم كله! حين سمعت سائلا يقول: ما حكم السعودة؟ لأول مرة، تعجبت من سؤاله، كيف يسأل عن أمر لا يحتاج إلى سؤال، فأين الاستشكال الشرعي في تحول وظيفة ما إلى يد سعودي بدلا من غيره؟! ولكن وللأسف الشديد وجدت أن المعنية بها هي (السعودة الوهمية)، أي أن السؤال بشكل أوضح: ما حكم أن يعمل الشخص في وظيفة لا يلتزم فيها بدوام، بل ولا يحضر نهائيا، ولا يقدم أي عمل، ويأخذ إزاءها راتبا؟! من أجل أن تحقق مؤسسة ما أو شركة ما رقما معينا من عدد السعوديين لديها، لتكون في النطاق الفلاني، والمؤلم أكثر أن يطلق مصطلح (السعودة) على هذا الوهم، حتى يصبح علما عليه!!. ما المشكلة في ذلك، ما دام صاحب المال موافقا على هذا الخيار؟ المشكلة أعمق من أن نتصورها بهذه السهولة!! المشكلة تكمن في إلغاء قيمة (الإنتاجية) لدى هؤلاء الشباب والفتيات الضحايا، وتصل إلى حد إزهاق روح (الكرامة) في ذواتهم، فقد أصبحوا يتلقون الصدقات المطلية باسم جميل جدا هو: (السعودة)، وإشعارهم بأنهم ليسوا جديرين بأن يلتحقوا بالعمل، وأن الشركة لا تتقدم بوجودهم، بل تتأخر؛ لأنهم يمثلون عبئا عليها، وأنهم مجرد وسيلة لا قيمة لها في الحقيقة لتصل الشركة إلى أهدافها الاستثمارية أو الاستغلالية، وبهذا يتم تكريس كل مفاهيم الكسل والفشل في قيعان نفوسهم الطرية، التي كان من الممكن أن تغرس بالفسائل؛ لتصبح غابة من النخيل بعد سنوات قلائل، وربما كان ذلك استمرارا لتربية فاشلة في المنزل، أقنعتهم بأنهم ليسوا في مرحلة إنتاج، وإنما هم في مرحلة استهلاك فقط، حيث يقوم الوالد بكل النفقات بلا استثناء، ولا يطلب منهم أي جهد أو عمل ولو لخدمة المنزل، ويقوم بإحباط الفرص الاستثمارية اليسيرة التي يمكن ان يمارسوها وهم طلاب، فيقتل فيهم (معنى حب العمل)؛ ولماذا يعملون أو يفكرون في زيادة دخلهم، والمصروف الذي يحتاجون إليه يُصب صبًا في أيديهم، نهاية كل شهر وربما كل يوم!! وحين يقوم القطاع الخاص باستكمال هذه الدائرة البائسة بما يطلق عليه (السعودة)، يكون قد أسهم في تدمير المستقبل الوطني كذلك؛ لأنه يصنع البطالة المقنعة؛ بسبب تعطيل طاقات الشباب ومكافأتهم على ذلك، وتدمير الجانب المنتج والمبادرة والإيجابية في نفوسهم، والإبداع في عقولهم، وهم الذين ننتظر منهم أن يتحملوا همَّ بناء الوطن وتنميته وتطلعاته وبناء مستقبله في عصر يموج بالتحديات. قرأت كثيرا حول أسباب فشل (السعودة) في بعض تطبيقاتها، موزعة بين القطاع الخاص في ظل قلة المرتبات، وطول الدوام على شاب مرفَّه، والوضع الوظيفي الذي يرى الشاب السعودي أنه غير لائق به!! وبين من يجعل اللوم كله على الشاب؛ لعدم جديته، وبحثه عن الوظيفة الأريح، وضعفه في الالتزام بالعمل والاستمرار فيه من جانب، وضعف إنتاجيته من جانب آخر، وكل ذلك يمكن أن يكون سببا مقنعا وله شواهد. ولكني أميل إلى أمر آخر، هو أن القضية ليست قضية راتب ولا دوام فقط، إذ يمكن تحسينهما، بل قضية التزام وإنتاجية تنبع من روح الشاب، ولكن ليس الملوم فيها الشاب نفسه فقط، وإنما الملوم فيها أيضا هو من كان ولا يزال يتعامل مع الشاب والفتاة منذ أن خُلق، ومنذ أن دخل المدرسة، ومنذ أن دخل الجامعة، ومنذ أن حاول أن يجدف وحده ليشق عباب الحياة على أنه يُحمل، ولا يَحمِل. فلقد كانت تربية بعض المربين تندرج فيما يسمى علميا: (الحماية الزائدة) أو (الدلال المفرط)، فنتاجهما يؤول إلى ميوعة وبحث عن الأسهل والأهون والأفخم...إلخ. وإلى نفوس هزيلة غير جادة، لا تقبل التحدي ولا تصمد عند العقبات، بل تنهار عند أول عارض!! وفي المقابل التربية القاسية المفرطة في الجفوة والغلظة والتثبيط والتذكير بالعيوب والنقائص، وطمس روح المبادرة والإيجابية، حتى يتخرج الشاب في بيته وهو ضعيف الإقدام، تابعا لكل من يقوده، ممسوخ الشخصية، لا تعرف الشركة أين تستثمره، ولا ترى فيه مشروع قائد يمكن أن يحمل بعض أعبائها؟! كما أن الشركات التي تستقبل الشباب والفتيات يجب أن تقوم بدورها وتتحمل جُزءا من المسؤولية في إعادة بنائهم نفسيا، وتهز نخيلهم ليساقط الرطب حلوا عذبا. ولا أريد أن أتحدث عن التعليم ودوره في صياغة الشخصية، فإن التعويل على المقررات الدراسية في هذا الشأن غير صحيح؛ لوجود علاقة غير سوية في التلقي التطبيقي بين الطالب وبينها، ولذلك لا بد من استثمار النشاط الطلابي؛ لتحقيق الجوانب الأخرى غير العلمية. إنني أعتقد اعتقادا جازما بأن شبابنا قادرون على النجاح في كسب ثقة القطاع الخاص، حين يتعامل معهم على أنهم أراض بكر، تختزن ثروة كبرى، تحتاج إلى تخطيط كافٍ بأيدي خبراء مبدعين، يستخرجون منها أفضل ما يمتلكون من القدرات، وليس على أنهم مجرد عمال يشغلون وظائف أهم ما فيها أن تحقق رقما تتطلبه أنظمة وزارة العمل.