بيَّنتُ في المقال السابق أن الإيمان بالقضاء والقدر ركنٌ من أركان الإيمان، وأن معناه أن نؤمن أن الله تبارك وتعالى قد أحاط بكلِّ شيءٍ علما، وأنه القادر على كلِّ شيءٍ، كما قال سبحانه: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأنه يفعل ما يشاء: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فَعِلْمُ الله تعالى بالأشياء قبل أنْ تقع، لا يعني أنه يُجبر أحدا على فعلِ ما لا يريد، فالقضاءُ كما قال الإمام الخطابي: ( الإخبارُ عن تَقَدُّمِ عِلم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد) وكذلك قُدرتُه سبحانه، لا تَعني قسراً ولا إكراهاً، فلا يجوز أن يَظنَّ ظانٌّ أنَّ الله قد قَسَر الطائع على فعل الطاعة، ولا أنه قد قَسَر العاصي على فعل المعصية، وكذلك إرادتُه سبحانه، لا تَعني أنه يسلب الإنسانَ إرادته واختيارَه، وبيان ذلك أن الله تعالى اقتضَتْ حكمتُه أن يخلق الإنسان مركَّبا من نوعين من الحركات، الأولى حركاتٌ قَسْريَّة لا اختيار له فيها، كجريان الدَّمِ في العروق، ومثل حركة أجزاء الجسد، كالكبد والرِّئة والمعدة وغيرها، والنوع الآخرُ، تصرُّفات اختياريَّة، لَمْ يُقْسَر الإنسانُ عليها، كأكْلِه إنْ شاء، وشُرْبه إنْ شاء، وفِعْلِه الأمور الحسَنة، وتَرْكِه القبائح من الأعمال، أو فِعْله لها، فهذه تَصرُّفات لَمْ يَجعَلْهُ الله مُسيَّراً فيها، وإنما جعَلَه الله مخيَّراً بين فعْلِها وتَرْكها إنْ شاء، فأرادَ الله أن يكون الإنسانُ مريداً ومختاراً في هذا النوع من التصرُّفات، فقد وهبَه اللهُ إرادةً وقدرةً على الطاعة وعلى العصيان، فالعاصي حين يعصي والكافرُ حين يكفر، فإنهم لا يَعصون الله تعالى رغْماً عنه سبحانه، وإنما يتصرَّفون بما آتاهم اللهُ من قدرةٍ على فِعْل ما يريدون باختيارٍ حُرٍّ، لا تشوبه شائبةُ إكراهٍ ولا قسْر، فما يتَّصفُ به الإنسان من إرادةٍ وقدرةٍ، إنما هي عطاءٌ من الله، يمنحها متى شاء ويسْلبها متى شاء سبحانه، وهكذا وَهَبَ اللهُ الإنسان عقلاً يَعِي به الأشياء، ومنحه قُدرةً وإرادةً، يختار بها الامتثال والعصيان، ثم أرسل له الرُّسلَ، فبهذا صار أهلا للتكليف، واستحقَّ الثوابَ إنْ فعل الطاعة، كما استحقَّ العقابَ إنْ عصى وخالف أمْرَ الله، وبهذا يتبيَّن الخطأ الكبير الذي يرتكبُه كثيرٌ من الناس، مِن إحالَة تقصيرهم إلى القضاء والقدر، فيذنبُ أحدهم ذنْباً، كشرب الخمر، أو كتجاوز حدِّ السرعة في قيادة السيارة، فإذا حصل المكروه، وعاتبَه النَّاس على تهوُّرِه وسرْعته أجابهم: (لا تلوموني، ولا تضربوني، فإنما هو قضاءٌ وقدر) فهذا القولُ منهُ دليلُ عَمَى في البصيرة، فسبيلُ إيقاظِه من غَفلتِه، أنْ يُوجَعَ ضرباً، ثم يقال له: (وضَرْبُنا لك إنما هو قضاءٌ وقدر) فالقضاءُ والقدر عقيدةٌ يُؤمَنُ بها، وليس ذريعةً يُحْتَجُّ بها، وبيان ذلك أنَّنا لو كَلَّفْنا أستاذاً بتدريس أربعةٍ من الطلاب درساً مدَّته ساعتان يومياً، فإننا نجزمُ يقيناً أن هذا اللقاء اليومي إذا استمرَّ لأشهر معدودة، فإنه سيُفضِي إلى أن يكون لدى الأستاذ معرفة بمستوى كلِّ طالب منهم، فلو أن الأستاذ في يوم الامتحان أخرج ورقةً، وكتب فيها أمام اسْمِ كلِّ طالب، الدرجة التي يَظنُّ أن الطالب قد يحصل عليها، ثم بعد انتهاء الامتحان، صحَّح الأوراق ووزَّع النتائج، فرأى الطلاب أن النتيجة كانت مطابقةً لما كتبه أستاذُهم! فهل لأحدهم أن يحتجَّ بأن الدرجة التي حصل عليها كانت مفروضةً عليه بِحُكم أنَّ أستاذَه كتبها! أيُّ عاقلٍ يرضَى أنْ يفهم هذا الفهم السَّقيم! إنما يُستَدَلُّ بهذا على قُوَّة فراسة الأستاذ، ومعرفته بحالِ تلاميذه، فإذا كان ما يكتبه الأستاذ قد يصيب وقد يُخطئ، فإن عِلمَ الله تعالى لا يقبل الخطأ، فهو الذي لا تَعزُبُ عنه قاصيةٌ ولا دانية، هو الرقيب على خطرات القلوب، العليم بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، كما قال سبحانه:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) وهكذا اقتَضَتْ حكمةُ الله تعالى أن يَبعثَ مَلَكاً لابنِ آدم، وهو في بطن أمِّه، فيكتبْ عَمَلَه، ورزقَه، وأجَلَه، وشقيٌّ أو سعيد، ولن يخرج أحدٌ عما كتبه الله له، فلا يُتَصَوَّر أنْ يقع شيءٌ في هذا الكون إلا وهو مصدِّقٌ لما هو في علمِ الله، ومكتوبٌ عنده، ولهذا تفصيلٌ، بيانُه في المقال الآتي.