رداً على مقال الكاتب خالد الدخيل المنشور الأحد «4 كانون الأول (ديسمبر) 2011»، بعنوان: «التحول الكبير: ولاية المتغلّب استنفدت أغراضها». كثيراً ما يتعرض الكتّاب في الشؤون السياسيّة إلى مصطلحات شرعيّة بطريقة غير دقيقة وتدل على عدم إحاطة بمفهوم المصطلح وغاياته ومآلاته، وكذلك نرى مجموعة أيضاً من المهتمين بالشؤون السياسيّة من الباحثين الشرعيين يقعون في عدد من الأخطاء الأساسية حين يتعرضون لنقد بعض المصطلحات أو المفاهيم الذائعة في العلوم السياسية. وفي مقال الدكتور خالد الدخيل يفهم القارئ أن ولاية المتغلّب غير شرعية لذاتها، وهذا الأمر صحيح، لكن تعترضه إشكالات نقدية على نقد هؤلاء السياسيين لنظرية «ولاية المتغلّب». وقبل أن نتعرض لأحد أهمّ هذه الإشكالات علينا أن نقرّ معَ الدخيل بأن الإقرار بولاية التغلّب ليس منصوصاً عليه من أجل شرعيّة هذا المتغلب، فهو منصوص عليه من أجلِ تجنّب ويلات أشد من بينها سفك الدماء، وهو تحمّل مضرّة شديدة، في سبيل تجنّب مضرّة أشدّ، وهي زهق عشرات الآلاف من النفوس وشيوع الفوضى والحروب الأهلية في المجتمع المسلم الواحد، وهذه النظريّة تهدف إلى تحريم قتال الحاكم إلا في ثلاثة أحوال، ليس من بينها القتال على الدنيا، أو القتال على الملك، وهذه الأحوال الثلاثة: أن يكون الحاكم كافراً كفراً قاطعاً لا خلاف فيه، وثمة قدرة وقوّة على إزالته وجاهزية لإقامة حاكم مسلم بدلاً منه، وهذه النقطة راجعة إلى الهويّة الإسلامية للدولة الإسلامية، وهي أمر قريب مما هو موجود الآن (ولو عرفاً) في بعض الدول، ولا يتعارض مع الديموقراطية في تلك البلاد، فلا بد أن تكون ديانة الحاكم مسلماً، لأن الإمامة منصب شرعي في الدين الإسلامي، لا يقل عن إمام الجامع، أو مدرس القرآن، أو معلّم التوحيد، أو رئيس مجلس القضاء الأعلى، أو حتى الزوج الذي يجب أن يكون مسلماً. والحال الثانية: أن يعطّل شرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والصوم والحج فلا يقيمها، أو يمنعها فلا يسمح للناس بها. والحال الثالثة: أن يبطش هذا الحاكم بالمسلمين، بحيث يتحول وضعه من حاكم جائر إلى صائل ينبغي دفعه، ففي هذه الحال يجوز للمسلمين قتاله دفعاً للصائل، وليس قتالاً على الملك أو على الدنيا، فحكمه وحكم قاطع الطريق ومغتصب النساء متقارب، وإذا كان لا يمكن دفع الصائل إلا بإزالته من الملك جاز ذلك لدفع الصائل وليس لإزالته من الملك. لا يفوتني هنا أن أشير إلى أنه قد أقر طائفة من الفلاسفة الأوروبيين بأن الإنسان غير قادر على إيجاد قوانين نهائية وقطعية الفاعلية بسبب إما قصور في التقدير، أو في معرفة العواقب، أو السنن الكونية، أو في الأهواء البشرية المتواطئة، وبهذا فإن هذه الضوابط لن نحيط بإعجازها التشريعي إلا بعد أن نتقبلها - مثل الحج والعمرة، لو لم يفرضها الله علينا لما أدركنا الحكَم المرجوة منها على وجه الخصوص - وعندئذ ندرك أن الحكمة من هذا هي: ألا يقتتل المسلمون على الحكم، وحين تقتتل فرقتان على الملك يعتزلهم أكثر المسلمين. فتنحصر الدماء في الطائفتين المذمومتين المتقاتلتين على الملك، وفي الحالات الفردية التي تعالجها أحكام جنائية كالقصاص. وعندما لا تسفك الدماء بين المسلمين على الملك والدنيا، أو تنحصر في أدنى أحوالها؛ تكتسب الدولة منعة داخلية من القلاقل، ولا تكون وحدتها مهددة بالتفكك، أو باستضعاف الأجنبي لها، وعندئذ تكون مهمة المجتمع ضد المتغلب الظالم هي العصيان المدني الجزئي، وليس العصيان الشامل، وهو ما يصطلح عليه: بالطاعة في طاعة الله، والمعصية في معصية الله، وهذا لا يمكن التوصل إليه إلا بتثقيف المجتمع تثقيفاً قويّاً بألا يعصي في طاعة، فلا يعصى الحاكم - حتى إن كان جائراً - إذا أراد الدفاع عن حدود الوطن، ولا يعصى - ولو كان ظالماً - إذا أراد إخماد فتنة مجموعة من الإرهابيين أو القبض على مجموعة من قُطّاع الطرق، فمعصيته في هذا الشأن معصية لله في الحقيقة وليست معصية له! كما لا يطاع في ما يعصي فيه الله، ومع تطور هذا العصيان المدني تحصل داخل المجتمع ثورة جزئيّة على هذه المنكرات الدينية والدنيوية، بحيث يجد الحاكم نفسه - بعد انتشار هذه الثورة - مضطراً إما إلى الانصياع للشعب المسلم، وإما إلى أن يتعرض لمزيد من الانتقاد والعصيان الجزئي الذي سيلجئه في نهاية الأمر إلى الخضوع أو الاعتزال بمنكراته في قصره الخاص وحاشيته وعدم نفاذ إفساده في الأعيان والموظفين والعامة الذين يعصونه ذلك العصيان، وإما أن يحاول أن يتطاول على الشعب ويعتدي على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم فيكون له حكم الصائل فيهم فيجوز لهم قتاله وإزالته، وإما أن يكفر بشريعتهم التي يدينون بها أو يحاول تعطيلها فيتعرض للقتال أيضاً والإزالة. إن من لا يجيد قراءة القرآن الكريم يظنّ أنه سكت عن هذه الأمور، بيد أنه لو تأمل قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وتأمل حقيقة الشريعة الإسلامية وروحها التي تربط بين عبادة الله وبين تعامل الشعب مع الحاكم وسياسة الحاكم للشعب، لأدرك أن أكثر الآيات الكريمة إنما جاءت لتحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته وعبادته، وهذه الطاعة تستوجب طاعة الله ورسوله الكريم حتى في النصوص التي تتعلق بالحكام المتغلبين، وإذا حصل ذلك تحقق وعد الله للأمة بالاستخلاف، وهذا نص قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفرَ بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). وبهذا يتبيّن أن مفهوم «قبول الأمر الواقع» الذي يتحدّث عنه الدخيل في مقاله، ليس سوى الإيمان بأن الصراع ليس على الملك أو الدنيا، وإنما على تحقيق العبودية لله، وهذه العبادة تحمل في طياتها امتثالاً لنصوص قرآنية ونبويّة صريحة، تحدد مواطن الطاعة، ومواطن العصيان، ومواطن القتال، وطريقة الطاعة، وطريقة العصيان، وطريقة القتال. وليس الأمر كما يظنّ البعض أن النصوص تتضمن قضايا الطاعة والرضا بالواقع، بل تتضمن طاعة الله وعدم عبادة سواه وتغيير الواقع وتحسينه وفقاً لأمره ونهيه، لا بصورة خارجة أو متعالية عليه. ونحن ندرك أن الدخيل وغيره من الكتّاب إنما يتوجهون بهذا الحديث إلى المجتمع وحملة الخطاب الفقهي المعاصر، لتقديم التنازلات والرضوخ لواقع السياسة المتسيّدة في هذا العصر، التي يديرها من لديهم السلطة على المال والإعلام والسلاح في العالم. وهذا في حد ذاته رضوخ غير محمود لواقع قسري، في حين أن شريعة الإسلام مهيمنة والمفترض في الشرائع الأخرى أن ترضخ لأوامرها ونواهيها، وإذا كانت ثمة حساسية من مصطلحات الكتاب والسنة والشريعة، فلنقرأ هذه التعاليم بوصفها تعاليم فقط، وننظر فيها، ولن نعدم فيها ما يجعلها مؤهلاً لأن ترى الاحترام، ذلك هو مقتضى الإيمان، ومقتضى البحث المحايد عن الحقيقة. وإلا فالقرآن والسنة غير مقيدين ولا يمكن تقييدهما بأي تنازلات فقهية، أو انتقادات غير موضوعية ودقيقة لتعاليمهما، خصوصاً من تلك الأفكار والثقافات التي تقدم نفسها - وإن بلسان الحال - على أنها نهاية التاريخ، والشيء الذي استنفد كل ما سواه أغراضه إلى أجل غير مسمى، بسبب أنها - هي الوحيدة - حق الأجيال المقبلة، الذي لا يحق حتى للأجيال الحالية المؤمنة بالله أن تبحث عما إذا كانت تمتلك استحقاق «نهائيتها» أم لا؟ أما في ما يتعلق باستنفاد نظرية التغلب لأغراضها، فما أدري، هل المقصود بالغرض العلة الغائية؟ فإن كان كذلك فهذا قول غير دقيق، فالحاكم العربيّ اليوم إنما هو متغلب مستعار، تستطيع كأس مسمومة أن تسمه ولو بعد أشهر عدة، أو تستطيع رحلة تعزية مفاجئة أن تجعله محروماً من العودة لكرسيه، أو قنبلة في مصلاه أن تخرجه من البلاد في رحلة إسعافية. المتغلب الحقيقي في عالم اليوم بالنسبة للأمة الإسلامية والعربية هو "»إسرائيل»، التي ينبغي لنا القبول بها والاعتراف بها والتحاور معها وقبول بعض مظالمها وفقاً لإفراجها عن بعض مظالمنا، ولو ثار الشعب الذي تقتله وتشرده ليل نهار في وجهها، فسنثور كلنا ضد الثائرين منه، ونحاصره ليقبل الحوار والحلول السلمية والمتدرجة. والمتغلّب حقاً في هذا اليوم هو الحكومة التي تأتي على ظهر الدبابة أو تحت جناح الطائرة، لتقرر اجتثاث الفئات التي لا تناسبها سياساتها ورؤاها من المجتمع (اجتثاث البعث) أو تهميش الغالبية التي لا تراها أهلاً للمشاركة في مصير البلاد (الشعب الأفغاني)، ولا ضير من انتخابات برلمانية أو رئاسيّة إذا رضخنا لهذا النوع من «التغلب»، وإلا فالاحتلال والغزو ل«الشعب» تحت أي بند، سواء أكان: الدفاع عن النفس (إسرائيل وفلسطين)، أو مطاردة فلول النظام (أميركا والعراق)، أو الحرب ضد الإرهاب (الناتو وأفغانستان)، أو الدفاع عن الحدود (أثيوبيا والصومال). فهل استنفد هذا «النوع» من التغلب أغراضه؟ أم أن الذي استنفد أغراضه فقط هو «تغلّب» ذلك الحاكم الذي لا فرق بينه وبين أي «رجل عصابة» يختبئ في أحد الأحياء الشعبية في أميركا اللاتينية؟! وبالإمكان التخلص منه بخمس قنوات فضائيّة وثلاثة مواقع على «الإنترنت»، وإتمام ذلك بتجميد أرصدته، وتصفيته إما ب«السم» أو «تفجير هاتفه النقال»، أو «إسقاط طائرته»، أو حتى «قصفه وإعطاء بعض خصومه المسلّحين إحداثيات موقع القصف»! إنه من وجهة نظري «المتغلب المستعار»، فماذا عن «المتغلب الحقيقي»؟! [email protected]