ترقية الذات مشروع حياة ممتد، وكل مكوناتها النفسية بحاجة إلى تحسين كفاياتها، ولو تناولنا مشاعرنا فسوف نلحظ مدى حاجتها إلى الترقية من واقع ما نراه من ضعف الإحساس أو تبلد المشاعر بما حولنا من أحداث ومواقف يصدق فيها قول القائل (ما لجرح بميت إيلام). وقد ينتهي الأمر إلى أن تصبح «اللامبالاة»، أسلوب حياة للكثير منا، وتتآكل إنسانيتنا وتقسو قلوبنا حتى لكأنها كالحجارة أو أشدة قسوة. نحن بحاجة إلى تعزيز الشعور بالتعاطف تجاه الآخرين، (Empathy)، وهي سمة إنسانية جليلة، وهي تتدرج من فهم الآخر إلى القدرة على أن تضع نفسك محله وتتبنى مشاعره وأحاسيسه وآلامه مع المهارة في التعامل مع الآخرين فيما يخص ردود أفعالهم العاطفية. والتعاطف له ارتباط قوي بالذكاء العاطفي (Emotional Intelligence) وهو أحد مكوناته التي لخصها دانيال جولمان (Daniel Goleman) وهي بالإضافة إلى التعاطف: الوعي الذاتي Self-awareness وهو القدرة على التصرف والقدرة على فهم الشخص لمشاعره وعواطفه هو وكذلك الدوافع وتأثيرها على الآخرين من حوله. ضبط الذات Self-control وهو القدرة على ضبط وتوجيه الانفعالات والمشاعر القوية تجاه الآخرين. الحافز Motivation وهو حب العمل بغض النظر عن الأجور والترقيات والمركز الشخصي. المهارة الاجتماعية Social skill وهي الكفاءة في إدارة العلاقات وبنائها والقدرة على ايجاد أرضية مشتركة وبناء التفاهمات. إن التعاطف أكثر من مجرد الإحساس العفوي بالآخر، فالمشاركة الانفعالية هي مجرد مرحلة تمهيدية، والهدف هو التقدير الواقعي والدقيق لمشاعر الآخر بهدف مساعدته والتحرك لنصرته وهكذا يتحول التعاطف مع الآخرين- لا سيما المستضعفين- إلى فعل أخلاقي بامتياز. والإسلام في نصوص الوحي وممارسات أتباعه الصادقين خطا بالتعاطف خطوات كبيرة، فمن أقوال النبوة : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه البخاري ومسلم. وليس التعاطف قاصرا على المسلمين فحسب بل هو لعموم الناس كما في الحديث (خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر) حسّنه صحيح الجامع. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) رواه أحمد، وكلمة (الناس) لفظة عامة تشمل كل أحد، دون اعتبار لجنس أو دِين. بل عُني الإسلام بالتعاطف مع الحيوان الأعجم واستشعار حاجته كما في القصة التي رواها النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ, اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَوَجَدَ بِئْراً ، فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ, يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) متفق عليه. ولا تعجب إذا قلت لك إن هذا التعاطف حظي به الجماد أيضا ففي قصة (حنين الجذع) روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه، صاحت النخلة التي كان يخطب عليها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر). وأنوه أن التعاطف ليس حنانا لا عقل له بمعنى أننا لا ينبغي أن نتعاطف مع المجرمين أو أرباب العنف المسلح في ملاحقتهم وإيقاع العقوبة بهم، وقد قال الله فيمن استحق الحد: (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (2) سورة النور إن عالمنا المعاصر يئن من مشكلات كبرى وصراعات دموية ألجأت الملايين على الفرار من ديارهم حتى بلغ عددهم 232 مليون مهاجر في جميع أرجاء العالم، ومنذ مطلع العام 2015 وحتى شهر أغسطس الماضي، وصل 366402 لاجئاً عبر المتوسط وفقاً للمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، ولقي 2800 شخص مصرعهم خلال محاولتهم الهرب نحو أوروبا. فهل جاء يوم أمس 18 ديسمبر (وهو اليوم العالمي للمهاجرين) بجديد في مجال التعاطف مع المهاجرين اللاجئين وإغاثتهم ؟ نريد أن ننشر التعاطف في بيوتنا بين أفراد الأسرة، وفي مدارسنا وأسواقنا وطرقنا ومقار أعمالنا ومع سائر المخلوقات لنكون كما وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم أمة الجسد الواحد.