تسعى قمة المناخ المنعقدة حالياً في باريس إلى التوصل إلى اتفاق دولي لمكافحة التغير المناخي الذي يشكل أحد أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين. وتتعلق القمة أيضاً بالأمن القومي، نظراً لأن الجماعات الجهادية باتت تستولي على الأراضي التي تصحرت بفعل الاحوال الجوية السيئة وتعلن إقامة "الخلافة" عليها. ولفت الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه في الجلسة الافتتاحية للاجتماع الذي حضره 150 من رؤساء الدول والحكومات، الانتباه إلى وجود اتصال مباشر بين الإرهاب اليوم والمصير الرهيب الذي ينتظرنا جميعا إذا لم يتوحّد العالم لإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري. وأشار الرئيس الفرنسي هولاند إلى علاقة مماثلة بين نهاية العالم التي شهدها ضحايا باريس ونهاية العالم التي سيراها سكان الأرض إذا لم يتم وضع حد لظاهرة الاحتباس الحراري قائلاً: "لا اختيار بين مكافحة الإرهاب ومكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، فهما تحديان رئيسيان ينبغي علينا التغلب عليهما. يجب أن نترك أولادنا في عالم خال من الإرهاب، ونحن مدينون لهم بتوفير كوكب محمي من الكوارث، كوكب صالح للعيش". وعلى الرغم من المخاوف من الحاضر والقلق بشأن المستقبل، هناك صلة ظاهرية بين هجمات باريس في 13 نوفمبر ومعاناة الملايين في جميع أنحاء العالم ممن يعانون بالفعل من ارتفاع درجات الحرارة والجفاف ومستويات البحار. الإرهابيون الذين نفذوا هجمات باريس كانوا على صلة بما يسمى (داعش) وفروعها في حركة التمرد الجهادي العالمي الناشئ التي نجحت في الاستيلاء على أراض، معلنةً "الخلافة" في أماكن هجرها أهلها بسبب الاحوال الجوية السيئة وإساءة استغلال الموارد الطبيعية. 150 مليون نازح وعلى الصعيد العالمي، تشير تقديرات الأممالمتحدة أن تغير المناخ يجبر نحو 20 مليون شخص سنويا على النزوح وترك منازلهم، وبحلول عام 2050 يمكن أن يصل هذا الرقم إلى 150 مليونا. وستؤدي هذه الهجرات، سواء الداخلية أو عبر الحدود، إلى خلق توترات يمكن أن تتحول إلى أعمال عنف، لندور في حلقة مفرغة حقا بحيث يمكن لهذا العنف أن يؤدي بدوره إلى مزيد من التهجير والنزوح. وهنا تجدر الإشارة إلى الأراضي التي اقتطعتها منظمة أفريقية إرهابية شائنة هي "بوكو حرام". فهناك متعصبون لهذه المنظمة يديرون أنشطة إرهابية في محيط بحيرة تشاد، التي اختفت على مدى السنوات الخمسين الماضية، حيث تقلصت من مساحة تربو على 22000 كيلومتر مربع في الستينيات إلى أقل من 1500 كيلومتر مربع اليوم. ومع تحول الأنماط المناخية، نشأ الجفاف وأدت محاولات التعويض بالري إلى استنزاف مياه البحيرة. وقبل أن يسمع أي شخص بجماعة بوكو حرام، أوضح تقرير صادر عن برنامج الأممالمتحدة للبيئة عام 2008 أن "التغيرات في البحيرة ساهمت في نقص المياه المحلية وفشل المحاصيل ونفوق المواشي وانهيار مصائد الأسماك وملوحة التربة وزيادة الفقر في جميع أنحاء المنطقة". ومع نزوح السكان من المكان، دخلت جماعة بوكو حرام وشنت حملات ترويع على البقية التي اختارت البقاء. لكن القضية الأكثر بروزا في هذا الصدد هي سورياوالعراق، حيث استولى تنظيم «داعش» على الأرض ثم المدن، واستخدمت أراضيها لتدريب وتجهيز جيل جديد من الإرهابيين، بما في ذلك المجندون المتطوعون من فرنسا وبلجيكا الذين نفذوا هجمات في باريس. الهلال الخصيب كما أن المنطقة التي طالما عُرفت باسم "الهلال الخصيب" قد تصحرت بسبب تعرضها لأسوأ نوبة جفاف على مدار تاريخها في الفترة من عام 2007 إلى عام 2010، كما أسهم التغير المناخي في الصراع السوري الحالي، بحسب تقرير أعده الباحث كولين كيلي وزملاؤه هذا العام في إطار فعاليات الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولاياتالمتحدة. "أدى الجفاف إلى إثارة مشكلة حول المياه الموجودة وانعدام الأمن الزراعي وتسبب في فشل زراعي ضخم ونفوق الماشية. وكانت النتيجة الأكثر أهمية هي هجرة ما لا يقل عن 1.5 مليون شخص من المناطق الزراعية الريفية إلى أطراف المراكز الحضرية"، كما أوضح كيلي وزملاؤه في التقرير. ومن المرجح أن "داعش" جنّد مقاتلين من هؤلاء السكان المشردين والنازحين خلال عملية إعادة بناء صفوفه وبسط سيطرته على الأراضي في السنوات الثلاث الماضية. ويتحدث الشعار الأساسي لداعش وهو "البقاء والتوسع" عن شعب أُجبر على ترك أراضيه ويكافح من أجل البقاء فقط. ومن المفارقات أن بعض السّاسة في الغرب ينكرون تأثير تغير المناخ وفي الوقت نفسه يرفضون قبول اللاجئين من الحرب و"المهاجرين لأسباب اقتصادية" من هذه الأراضي الغارقة في الشقاء والظلام الدامس، وكأن ردهم على شعار داعش "البقاء والتوسع" هو "ابقوا هناك وموتوا". ويتشكك البعض في إمكانية أن تؤدي قمة المناخ في باريس إلى تحول في هذا النوع من التفكير برغم كل النوايا الطيبة المعلنة في القمة، ويعود ذلك جزئيا إلى أننا يمكن أن نتوقع أن يضع الكثير من القادة الورود والشموع على الأضرحة، لتعقبها لحظات طويلة من الصمت. تهديد مضاعف لا ريب أن الصلة بين التدهور البيئي والانهيار الاجتماعي ظاهرة مفهومة جيدا، لكنها شهدت هذا الأسبوع توضيحا لافتا للنظر خاصة عن الكيفية التي يمكن أن تعمل بها في عالم اليوم أو في المستقبل. وتأتي محادثات المناخ في باريس بعد أسبوعين فقط من هجوم إرهابي على المدينة ذاتها شنه تنظيم داعش. ويغتنم المرشحون للرئاسة الأمريكية الفرصة لاستخلاص بعض أوجه الشبه لهذه الظاهرة أو دحضها. فقد صرح بيرني ساندرز أن هناك "علاقة مباشرة" بين ظاهرة الاحتباس الحراري والإرهاب، بينما وصف دونالد ترامب الرئيس أوباما بأنه "مثير للسخرية" لإضاعته الوقت في مفاوضات المناخ "في حين أن العالم في حالة اضطراب ويتهاوى بطرق عديدة، خصوصا فيما يتعلق بداعش". ووصف البنتاغون نفسه تغير المناخ بأنه " تهديد مضاعِف" من شأنه أن يرهِق دفاعات أمريكا في المستقبل. ولكن كيف بالضبط؟ إن الانتقال من تغير المناخ إلى حرب أهلية في سوريا ينطوي على تأكيدين: أولا؛ تُعد ظاهرة الاحتباس الحراري التي من صنع الإنسان هي المسؤولة عن موجة الجفاف التي ضَربت سوريا في الفترة من عام 2006 إلى عام 2010. ثانيا؛ تسبب هذا الجفاف في الاضطرابات المدنية التي أعقبت ذلك. ويسلِّم علماء المناخ بالفرضية الأولى على نطاق واسع. وبينما لا يمكن بأي حال من الأحوال ربط حدث مناخي فردي بتغير المناخ أو حتى ظاهرة الاحتباس الحراري بشكل واضح، يمكن في الواقع قياس احتمالات مثل هذه الأحداث في إطار سيناريوهات مختلفة ومقارنتها. ووجدت دراسة نشرتها "دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم" الأمريكية في وقت سابق من هذا العام أن الجفاف الذي طال أمده، والذي امتد عبر شمال شرق سوريا وشمال العراق في الفترة من 2007-2010، نتج جزئيا عن زيادات في درجة الحرارة وضغط الهواء عند مستوى سطح البحر، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض هطول الأمطار ورطوبة التربة. وتم التنبؤ بكل هذه التحولات، كما ذكر مؤلفو الدراسة، بواسطة النماذج المناخية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري المرتفعة. ووفقا لتلك النماذج، كان من المحتمل أن يحدث هذا الجفاف بتركيزات غازات احتباس مثل التي نراها في الغلاف الجوي اليوم بصورة أكبر مرتين إلى ثلاث مما كان عليه قبل ذلك. وهذا الاستنتاج لا لبس فيه. إن الخط الذي يمتد من الجفاف إلى الحرب ليس مستقيما تماما، على الرغم من أنه لا ينطوي ظاهريا على أي قفزات يقينية. فمن المنطقي أن يؤدي الجفاف الشديد إلى فشل واسع للمحاصيل، وهذه نتيجة كارثية في بلد يعتمد اعتمادا كبيرا على الزراعة. ولكن الجفاف، مهما كان شديدا، كان أحد القوى العديدة التي تعمل في سوريا؛ فقد لعب الفساد الحكومي والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان واليأس الاقتصادي وتصاعد موجة الإسلام المتطرف دوره الخاص، والبحث عن المساهمة النسبية لتغير المناخ عن طريق الجفاف في تطور الأحداث داخل سوريا عمل صعب في أحسن الأحوال. إننا نعلم أن هناك جفافا استمر لعدة سنوات. ونعلم أنه اضطر مئات الآلاف من المزارعين الفقراء إلى ترك أراضيهم والنزوح إلى المدن التي ازدحمت بالفعل باللاجئين (مليون أو نحو ذلك، حسب بعض التقديرات) بسبب الحرب الدائرة في العراق المجاور. ونعرف أن الأممالمتحدة، على الأقل، كانت قلقة للغاية. ووفقا لبرقية "ويكيليكس" سلط عليها الضوء الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" العام الماضي، فإن ممثل سوريا في منظمة الأغذية والزراعة كان يدعو لتدفق الأموال إلى سوريا لدرء أسوأ آثار الجفاف التي تعود إلى عام 2008. وكان وزير الزراعة السوري قد أخبر الممثل السوري على ما يبدو أن مواجهة التداعيات المتوقعة ستكون "خارج نطاق قدراتنا كبلد". وتم استخدام عبارة "التدمير الاجتماعي". عدم استقرار المناخ يؤدي إلى عدم استقرار السياسة إلى ذلك، ضربت ظاهرة "النينو" المدمرة قارة أفريقيا بقوة هذا العام بشكل محدد. وتتعلق ظاهرة "النينو" بارتفاع درجة حرارة سطح مياه المحيط الهادي وتراجع هطول الأمطار. وقد كانت دورة الطقس التي لا يمكن التنبؤ بها أكثر كثافة من المرات السابقة، ويُلقى عليها باللوم في كل شيء، بدءا من الجفاف في جنوب أفريقيا إلى الأعاصير المفرطة في مدغشقر. ويبدو الأثر الإنساني لظاهرة "النينو" واضحا. وقد حذرت منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) أن هناك نحو 11 مليون طفل معرَّضون لمخاطر الجوع والمرض ونقص المياه كنتيجة مباشرة لسوء الأحوال الجوية، وتعتبر إثيوبيا هي المنطقة الأكثر تضرراً بالجفاف. وصرحت المنظمة في بيان لها أن "العواقب قد تمتد لأجيال ما لم تحصل المجتمعات المتضررة على الدعم". وبصرف النظر عن الآثار الواضحة والمدمرة على صحة الأفراد ورفاهيتهم، فإن ظاهرة "النينو" تأتي مصحوبة بمخاطر عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، من النوع الذي أطاح بحكومات في الماضي، وذلك بحسب ما أفاد تقرير صادر عن "معهد الدراسات الأمنية" في بريتوريا، جنوب أفريقيا. وأشار التقرير إلى أنه في الوقت الراهن يدق المزارعون وعلماء الأرصاد الجوية والوكالات الإنسانية ناقوس الخطر بشأن الطقس الشديد الذي تُحْدِثه ظاهرة "النينو" المدمرة في أفريقيا. ومع تفاقم الطقس، يجدر التذكير بأن هذه الأنواع من الأحداث لديها القدرة على تدمير ما هو أكثر من المحاصيل. الأرض القاحلة في المنطقة الجافة لمحافظة الرقة، سوريا، في عام 2010