(كفاية) ليس عنوانا عرضيا أو تشويقيا لمقال بل هو موسوعة ممتدة من فلسفات وقراءات يقوم بها حاليا الكثير من المهتمين بفلسفات بعينها وأساتذة جامعات وأدباء وقراء أيضا، لأن الصديق اللدود وهو الرفاهية التي لا نستشعر أخطارها حال الانغماس فيها والتي تتضمن فكرة المزيد من الدولارات أو الريالات أو أي من عملات العالم، وأعني النقود والديون تتراكم وتتضخم بسبب الفوائد المركبة أيا كان نوعها وتصنيفها حلالا أو حراما، والتسهيلات في البطاقات الائتمانية أو أقساط السيارات بدفعة أولى ودفعة أخيرة تعادل نصف درزن من الاقساط. وبيت العمر ورحلات سياحية خارجية على أقساط وكلها إبداعات منهجية تورط في ديون من المؤكد انها خراب بيوت وتسبب الفشل في الحياة بكل ما تعنيه كلمة فشل. ولمحاولة معالجة المسألة برمتها فقد ظهرت فلسفة (كفاية ) ومن أدق معانيها (الأمثل) التي تنادى بالحياة المثالية أي أن نمتلك القدر المناسب والمقدار الصحيح من الأشياء واستخدامه بشعور عميق من الرضا والامتنان بدون هدر لموارد، وأيضا من دون بخل أو تقشف أو حمية رجيمية، ويمكن مواجهة ذلك بتدابير تشجيع الرفاه غير المادي وتنمية الوعي بالسلوك الاستهلاكي الصحيح ورفض الإسراف المبالغ فيه، لأن المزيد من كل شيء يعني المزيد من الضرر والامثلة لا حصر لها، فالمزيد من الطعام يعني السمنة والترهل والمرض العضوي والنفسي وقلة الحركة والعمل، وكذا المزيد من الأجهزة غير الضرورية يعني زيادة استهلاك الطاقة ، والمباهاة باقتناء رتل هائل من السيارات للبيت الواحد تبخير للوقود في الهواء وتلوث للبيئة وانبعاث حراري. لقد عرفنا الآن سر سعادة الأجيال التي سبقتنا على وجه المعمورة ولم تورثنا دينا يلزم سداده لأنهم فهموا (الكفاية) بفطنة وطبقوها بحكمة وامضوا أيام الدنيا في هدوء وراحة بال شديدين وسعادة قلما نحسها حاليا، أما نحن فكنا نظن أن حياتهم شح وبخل ونقص في الطموحات ورفضنا طريقتهم المثلى بعنجهية وصلف وربينا أولادنا على ثقافة الزيادة وعلمناهم حساب التراكم والكم الهائل من كل شيء وحتى لعب الأطفال أكثر من حاجاتهم ومن طاقاتهم وربما أكبر من سنهم ونحتفظ بها حتى يكبروا وسميناها مقتنيات الأطفال وليس حسب حاجاتهم أو رغباتهم. وحقيقة أن من يعتقدون وهما أنهم يعيشون قمة الرفاهية إنما يحاولون إقناع أنفسهم قبل إقناع الآخرين وواقعهم يجسد مشهدا تراجيديا في الحياة بالانهزام والانسلاخ عن فكرة المجتمع، فقد تصوروا أن الحياة السعيدة هي امتلاك كل ما يريدون بكميات لا نوعيات، ونسوا أن الحياة برمتها إلى زوال وهي زينة وكل زينة لا ديمومة لها، وبالتالي لا تستمر كثيرا وحتى لو استمرت فستفقد كل معانيها قبل بريقها. الحياة الجميلة أن نعيشها معا بهدوء وضرورات الإنسان واحتياجاته محدودة فلن يأكل الانسان أكثر مما يملأ معدته ويسد رمقه ولن يلبس أكثر مما اعتاده الناس كما وكيفا من ملبس وتلك مقارنة لا مفارقة. إذا فلنفعل (كفاية) ونترك شيئا للأجيال القادمة من الثروات العامة ومما حصلنا عليه بأنفسنا كخاص ولنرشد استهلاكنا في كل ما نهدره يوميا من طاقة ومن أموال كسبناها أو اقترفناها وأسرفنا في انفاقها ببذخ وليس بالضرورة، ونسمح لأنفسنا بأدوار حتى وإن كانت خارج بلدنا وبعيدة عن أعين مجتمعنا لأننا لا نجرؤ أن نؤديها محليا ولو أديناها محليا بصورة أخرى كأن نقطنها بشهامة على رؤوس الفقراء والمحتاجين لكانت فائدة وقيمة وطنية وذخرا لحياة أخرى لابد أنها آتية. (كفاية) ليست موضوعا فلسفيا غير قابل للتطبيق، بل هي مناداة جادة للاستدامة وتحسين كيفية ونوعية الحياة باطمئنان ورضا وقناعة، بالتأكيد سيتجلى أثرها في المجتمع ككل قبل الفرد ووصفة صادقة للتعايش المجتمعى التكافلي الراقي والراحة من الركض اليومي الفائض واللهث في كل الأجواء بغية الحصول على أكبر كم من المال بأنانية مفرطة وليس من أجل أبنائي ولا حتى من أجل أحفادي ولكن لامتلاك ما يلزم وما لا يلزم. وإذا فهمنا وشجعنا أساليب الحياة غير المادية ووعينا السلوك الاستهلاكى ورفضنا الاسراف فسنخرج قطعا من فلسفة الفاشلين حسب منظور آن ريان التي ترى أن (كفاية) فقدت جاذبيتها وبريقها ومعناها الأصيل لتصبح فلسفة الفاشلين ممن يتجنبون تحديات الحياة ومغامرات الانجاز وفقط الحصول على المزيد وبس .