يكمن في قلب عدم الاستقرار المالي في الاقتصاد الحديث هذا التفاعل بين القدرة غير المحدودة للبنوك على خلق كميات جديدة من الائتمان والمال والقدرة الشرائية، وبين العرض النادر للأراضي في المدن. والنتيجة الحتمية لذلك هي دورات من الطفرة والانهيار التي تغذي نفسها بنفسها. إذا كانت الديون هي شكلا من أشكال التلوث الاقتصادي، فإن آلة خلق الديون المعقدة والمتطورة تستطيع أن تجعل هذا التلوث أسوأ. الأثر الصافي للابتكار المالي في فترة ما قبل الأزمة كان أنه أوقعنا في دورة ائتمان قائمة على المنشطات، وأدى إلى انهيار عام 2008. لكن الأمر الذي يفسر عمق الركود الاقتصادي الذي وقع في أعقاب الأزمة ليس السمات الداخلية للنظام المالي، بقدر ما هو الحقيقة البسيطة التي تقول إنه بعد سنوات من النمو السريع في الائتمان، دخلت كثير من الشركات والأسر في الرفع المالي المفرط. وحين اهتزت الثقة في أسعار الأصول المرتفعة، قامت الشركات والأسر بتقليص الاستثمار والاستهلاك في محاولة لتقليص ديونهم. هذا الشروع في تقليص الرفع المالي أدى إلى تعثر الانتعاش الاقتصادي. بالتالي كان هناك عاملان وراء الانهيار: الرفع المالي المفرط في الاقتصاد الفعلي، وجوانب القصور المتعددة في النظام المالي نفسه. لكن السبب الرئيسي في أن الانتعاش كان بطيئا وضعيفا ليس هو أن النظام المالي ما يزال معتلا، وإنما بسبب نطاق العبء المتراكم من الديون. على مدى 50 عاما، سجل الرفع المالي في القطاع الخاص - أي الائتمان مقسوما على الناتج المحلي الإجمالي - نموا سريعا في جميع البلدان المتقدمة. خلال الفترة من 1950 إلى 2006، ارتفع الائتمان أكثر من 3 مرات. فهل كان هذا النمو في الائتمان ضروريا؟. ازداد الرفع المالي لأن الائتمان سجل نموا أسرع من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. خلال العقدين السابقين على 2008 توسع الائتمان في معظم البلدان المتقدمة بحوالي 10 إلى 15 بالمائة سنويا، في مقابل 5 بالمائة من النمو في الناتج المحلي الإجمالي. في ذلك الحين، كان يبدو أن نمو الائتمان الذي من هذا القبيل كان لازما من أجل ضمان النمو السليم في الاقتصاد. تقول النظرية الاقتصادية السائدة إنه إذا رفعت البنوك المركزية من أسعار الفائدة بهدف إبطاء النمو في الائتمان، فإن النتيجة ستكون تراجُع النمو الحقيقي. نستطيع أن نرى الآن نفس النمط ونفس الافتراضات وراء السياسة النقدية في كثير من بلدان الأسواق الناشئة، بما فيها الصين: في كل سنة يسجل الائتمان نموا أسرع من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي يزداد الرفع المالي، ويعمل النمو في الائتمان على دفع الاقتصاد إلى الأمام. لكن لو كان هذا صحيحا بالفعل فإننا نواجه معضلة حادة. يبدو أننا بحاجة إلى أن يتوسع الائتمان بصورة أسرع من الناتج المحلي الإجمالي من أجل إبقاء الاقتصاد في حالة نمو بمعدل معقول، وهو ما يؤدي حتما إلى الوقوع في الأزمات والركود وفخ الديون العالقة. على ما يبدو فإنه محكوم علينا بالوقوع في عدم الاستقرار في اقتصاد عاجز عن تحقيق التوازن بين النمو وبين الرفع المالي المستقر. هل هذا صحيح، وهل الأزمات المستقبلية الشبيهة بأزمة عام 2008 هي أمر لا بد منه؟ جوابي هو لا - لكن فقط إذا عملنا على الحد من المحركات الكامنة التي تؤدي إلى انقباض الائتمان. أحد هذه المحركات هو الأهمية المتزايدة للعقارات في الاقتصادات الحديثة. في جميع البلدان المتقدمة، تشكل العقارات أكثر من نصف جميع الثروة، ومعظم الزيادات في الثروة، والغالبية العظمى من القروض. ومن المتوقع أن تصبح العقارات أكثر أهمية في المستقبل. هناك محرك آخر وهو ازدياد التباين في المستويات الاجتماعية بين الناس. يغلب على الناس الأغنياء أن ينفقوا حصة من دخلهم تقل عن النسبة التي ينفقها أهل الطبقة الوسطى والفقراء. بالتالي فإن تزايد عدم المساواة سوف يكبت الطلب والنمو الاقتصادي ما لم تتم معادلة المدخرات الزائدة للأغنياء بزيادة الاقتراض من قبل أصحاب الدخل المتوسط والمنخفض. وفي هذه الحالة يصبح من الضروري زيادة الائتمان والرفع المالي من أجل المحافظة على النمو الاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه تؤدي بصورة محتومة إلى الوقوع في الأزمة. هذه العوامل تؤدي إلى نمو الديون، وهي ظاهرة، على عكس ما تقوله كتب الاقتصاد المقررة، لا تساند الاستثمار المنتج في رأس المال ومصادر الدخل الجديدة التي يمكن من خلالها تسديد الديون. نتيجة لذلك، فهي تدفع الزيادات في الرفع المالي والذي هو غير ضروري لتحفيز النمو الاقتصادي ومع ذلك تؤدي إلى أذى اقتصادي حاد. في مقال لاحق سوف أبين السياسات اللازمة لإنشاء اقتصادات أقل اعتمادا على الائتمان المكثف، وأكثر استقرارا، واللازمة لتقليص مخاطر الأزمات في المستقبل. هذا المقال مأخوذ من كتاب بعنوان: "بين الديون والشيطان: المال والائتمان وإصلاح التمويل العالمي"، الذي سيصدر هذا الشهر على مطبعة جامعة برنستون