يبدأ حلم تغيير العالم في مرحلة من الصغر يصعب تحديدها، كما أنه يصعب جدا الجزم بمدى وقوة وتأثير الثقافة والسياق الاجتماعي عليها. إنها من ذلك النوع المتراكم الذي ينشأ في بيئة ما ثم يبدو للناس وكأنه أمر فطري لا غنى للمرء عنه. جيل السبعينيات رافق طفولته مسلسل جريندايزر الكرتوني، وهو مسلسل ياباني يوصف بأنه لاقى نجاحا في العالم العربي يفوق نجاحه في اليابان نفسها. يحكي المسلسل قصة الصراع بين الخير والشر، هناك (فيغا الكبير) رمز الشر وقائده الذي يسكن في سفينته الفضائية ويهدف إلى السيطرة على جميع الكواكب، أما (دوق فليد) فهو القادم إلى كوكب الأرض متعبا من كوكب (فليد) المنهزم من قبل فيغا الكبير، ومعه المركبة العظيمة جريندايزر. يتبناه الدكتور آمون ويخفي حقيقته، ليظهر من جديد دوره حين يقرر فيغا الكبير غزو الأرض. إن نجاح المسلسل في العالم العربي، ورسوخ أبطاله في ذاكرتنا، والصورة الجميلة التي مازلنا نحتفظ بها لمركبة جريندايزر، إضافة إلى الصوت الرائع لسامي كلارك الذي ظل يتردد في داخلنا لفترات طويلة في مقدمة المسلسل: «علّي علّي بطل فليد هيا طر يا غرندايزر، بعزم علّي حمما أرسل افتك بالأعداء، كافح شرا حطم مكرا في حزم وإباء، امنع طمعا اردع جشعا فالخطر كبير، هذي الأرض يا غرندايزر كوكب صغير، خيرها يزهو حبها يسمو للعدل الفسيح، دافعوا دافعوا حتى تفوزوا بالحب العظيم فالخير عميم». لقد غذى جريندايزر ذاكرتنا بشكل يتوافق مع رغباتنا التي جاءت في سياقاتها الاجتماعية المناسبة. كان جزءا من أسطورتنا الشخصية على حد تعبير باولو كويلهو الروائي البرازيلي. وهو يعبر عن حلم في داخلنا يجعلنا نتمنى أن نكون الاستثنائيين الذين يملكون مركبة عظيمة ليمنعوا الشر من السيطرة على العالم. كنا نتمنى أن نكون دوق فليد بشكل أو بآخر، وبأن ننهض يوما لندافع عن وطننا وأمتنا وأن نمحق الأعداء. وكان لكل منا (فيغا الكبير)، والإسقاط هنا يصبح مهما في عقل الطفل وخياله، فما تعتقده العائلة عدوا سيكون هو فيغا الكبير بلاشك لدينا، إضافة إلى ما سيصنعه الإعلام والمنابر السياسية والدينية كذلك، فالرمز المبهم ليس سوى منطقة مشتركة ومستباحة للخيال. في لحظة ما ظننا أننا صرنا كبارا فقاومنا الذاكرة الأكثر براءة وطردناها من عقلنا، واستبدلناها بالمصارعين الأخيار الملتزمين بالقانون والأكثر نزاهة أمام خصومهم الأشرار، كان (سنوكا) حافي القدمين ذو الشعر الغجري هو الأكثر شعبية بحسب ما تسعفني ذاكرتي في برامج المصارعة الحرة، وكانت قفزته تمثل الضربة القاضية لتدمير قوى الشر، كنا نظن أننا نكبر بينما كنا نستبدل الرموز بأشكال تبدو واقعية أكثر. في نهاية الثمانينيات كانت أشرطة الفيديو تساهم بشكل كبير في خلق أسطورة المقاتلين العرب في أفغانستان، كانوا يظهرون بعممهم المشدودة الأنيقة رغم غبار المعارك، وشعرهم المسدول على الكتفين، وطلقات الرشاش في الهواء والأسلحة المنثورة في كل مكان، والوعود التي لا تعرف النهاية سوى في القضاء على قوى الشر، فلم يكن الاتحاد السوفييتي وقتها وحده فيغا الكبير، ولا حكومة كابل. وعلى جهات أخرى دينية وليبرالية وقومية وشيوعية ورسمية كانت تصنع الرموز أيضا، كانت تتشكل قوى الخير والشر في الكتب والخطابات والأحاديث، وكان الطفل الكامن في داخلنا يقرأ نفسه هنا وهناك، يظن نفسه كبر عن أحلامه وهو لا يزال يرجو أن يظهر فجأة بمركبته لينقذ العالم من شر الأشرار. برغم الوهم الكامن في ذلك إلا أن حلم تغيير العالم ترافقه لذة وحماسة ليست في غيرها، تصاحبه نشوة وعنفوان يشتاق المرء إليها. ربما من الجيد والمؤلم أن نبحث عن لحظة تخلي المرء عن حلم تغيير العالم، هناك لحظة ما صاحبتها خيبة ألم عميقة، جرته جرا إلى الواقع، بأن العالم لا ولن يتغير لأن (دوق فليد) كان موجودا. هذه الخيبة رغم ألمها إلا أنها لحظة من لحظات النور الذي تضيء العقل لتخلصه من وهم تكثيف الرموز. لقد كان مسلسل جريندايزر أكثر صدقا حين عرضها في حالة فنية، فمن طبيعة الرموز أن تكثف المعاني من أجل تأويلها، بينما من طبيعة الأيديولوجيات والمؤسسات أن تؤسطر الرموز من أجدل أجندتها.