هل من طبيعة الإنسان أن يكون محبا للخير وللناس، أم أنه، على العكس من ذلك، مجبول على الكراهية والتعصب، أو كما يقول توماس هوبز «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» و «الكل عدو للكل» ؟. هذا السؤال أصبح مبتذلا لكثرة طرحه بل إنه طرح منذ آلاف السنين. ولكنني لاحظت أن فريق المتشائمين الذين يرون أن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان يغلب عليها العنف والقوة والتسلط والقهر هم أكثر حضورا من فريق المتفائلين الذين يرون أن الأصل هو الحب والسلام. ولا ألوم المتشائمين في تشاؤمهم؛ فتاريخ البشرية المديد ينضح بالدماء والأشلاء والاعتداء. والحروب عنوان بارز لهذا التاريخ. لن أناقش في هذا المقال طبيعة الإنسان، فهي برأيي سابقة للخير والشر، أو هي مما وراء الخير والشر؛ فالإنسان كتلة غرائز ودوافع لا يمكن وصفها، مبدئيا، بأنها خيرة أو شريرة. وأظن أن الطريقة التي يحقق بها الإنسان، سواء الفرد أو النوع، هذه الدوافع والبواعث والغرائز هي الأجدر بالبحث والنقاش. داخل إطار الثقافة الواحدة أو المجتمع الواحد نشأت قوانين وعادات اجتماعية ترمي إلى ضبط الغرائز وتنظيمها، وهي بالعادة لا تركز على الطريقة التي ينبغي بها تحقيق الغرائز والدوافع، بل الأهم هو ضبطها لكيلا يسود العبث والفوضى. في فترات سابقة من التاريخ كانت «القبيلة» أو «العشيرة» تواجه المصاعب، وكان لزاما عليها أن توحد صفوفها خلف شيخها أو أميرها حفاظا لبقائها. من هنا أصبحت «القبيلة» كالكيان الواحد أو الفرد الواحد، وخفت حدة الغرائز العدوانية بين أفرادها وتم توظيفها لكي تتجه إلى الخارج؛ إلى العدو المتربص. إن المرء يشعر بأن أخاه أو ابن عشيرته هو شريك معه في حماية نفسه والآخرين، وهنا يظهر الوئام والسلام الداخلي. ومع الزمن تطورت القبيلة لتصبح كيانا سياسيا ناضجا؛ دولة أو إمبراطورية، ولكن التطور هذا ليس تغيرا جذريا، إذ لا تزال الإمبراطورية مجرد قبيلة كبيرة وواسعة، والإمبراطور لا يزال هو شيخها أو أميرها. صحيح أن العلاقات بين أفراد الدولة القديمة لم تعد متماسكة ومتوائمة كالسابق إلا أنها لا تزال قائمة، وتشتد قوتها مع التهديد الخارجي، سواء أكان كارثة طبيعية أم عدوان دولة أخرى. ذكرت في أكثر من موضع أن العلاقات بين الدول القديمة هي علاقات عداء وتوجس أكثر من كونها علاقات سلم وتعاون، وأن هذا الوضع تغير، نوعا ما، في العصر الحديث مع ظهور فكرة «الأممالمتحدة» وغيرها من الأفكار التي وجدت طريقها للتحقق. ولكني على يقين أن الذي تغير هو فقط الطريقة التي يدار بها الصراع والعداء !. فالعلاقات الدولية اليوم ليست محكومة تماما بمبدأ العدالة والسلام حتى ولو رفعت هذه الشعارات عاليا وحتى لو دونت في الدساتير والمواثيق. وإذا عدنا إلى فريق المتشائمين لرأينا أنهم يعتبرون أن الديمقراطية والاقتراع هي فقط استراتيجية جديدة وذكية لإدارة الصراع على السلطة، فبدلا من السلاح يلجأ الناس إلى التصويت والاختيار. إنه بالفعل خيار عقلاني وذكي، ولكن الجذوة التي تشعل أوار الحرب لا تزال تحت الرماد، وأظنها ستظل باقية مادام مفهوم الدولة والسلطة والسيادة بالصورة القديمة هو السائد. وهل هناك، أصلا، بديل يلوح في الأفق ؟! أعتقد أن البديل غير موجود، فمفهوم الدولة والسلطة هو ما يحكم العلاقات الدولية والنظام العالمي السياسي الاقتصادي. إن الأصوات المنفردة التي تعزف هنا وهناك والتي تخترق حدود الثقافات، وأقصد بها أصوات دعاة السلام العالمي، هي من الأصوات، ربما الوحيدة اليوم، التي تجاوزت المفاهيم السياسية القديمة. فإذا تأملنا الوضعية البشرية الاجتماعية البدائية لوجدنا أن «الخوف» كان هو المبرر الأول لظهور فكرة «القبيلة» ثم «الإمبراطورية» ولا أنكر وجود عوامل أخرى، ولكن الخوف هو السبب الجوهري. خوف المرء على نفسه من الحيوانات الضارية والبشر المعتدين يدفعه للجوء إلى غيره لطلب المساعدة، ويتطور هذا الخوف ويكبر كلما كبرت العشيرة واتسعت رقعة الاجتماع البشري؛ فالذي يهيئ لحرب إمبراطورية يتخذ عتادا وخططا مختلفة عن تلك التي تهيأ لحرب قرية صغيرة. كما أن الخطر الذي يتهددنا من قبل شخص هو أقل هلعا من الخطر الذي يتهددنا من قبل دولة أو جيش. كل حرب قامت، وكل حرب تقوم، وكل حرب ستقوم، لا ينبغي أن نتجاهل أصلها الطبيعي، القوة والخوف. أما مسألة الطمع والاستيلاء على ثروات الآخرين فهي من التوابع، وربما أن هذا العمل هو لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن الذي تحققه قوة المال.. العمل لأجل القضاء على الخوف. هل هو ممكن ؟ يحاول المتفائلون الحالمون أن يتصوروا عدوا خارجيا ( فضائيا مثلا ) من كوكب آخر. لو حدث هذا لأصبح العالم، بالفعل، قرية واحدة، ولتحققت العولمة بمعناها الإيجابي الصحيح. ولكن هذا مجرد افتراض، بل وهم زائف. أما دعاة السلام فيحاولون العمل على افتراض أو بالأحرى على واقع موجود: الكوارث البيئية مثلا بوصفها عدوا مشتركا للبشرية، الأمراض الوبائية الفتاكة .. ونحوها. ولكن لسوء الحظ أن الإنسان لا يعتبر عدوا له سوى الإنسان، وسوى ما هو بشري. أما ما عداه فهو مجرد قدر أو كارثة طبيعية عمياء أو شيء لا يد لنا فيه. في النهاية سيكون للأصوات هذه، رغم خفوتها وضآلتها، النصيب الأوفر من الحضور العالمي، وستكون وأنا هنا متفائل هي ما يسيطر على نظام العلاقات البشرية العالمية. فالعار الذي يلحق اليوم بدعاة الحروب ، بدل التمجيد الذي حظوا به في العصور القديمة، باعث للأمل والتفاؤل. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة