قيل سابقاً "لا يتواضع إلا الكبير" ورغم أن ديننا الحنيف يحض على التواضع، والقناعة، والرضا، إلا أن الغالبية في مجتمعاتنا المسلمة والعربية بالذات مصابة بمرض "النقص" الناتج من خلل نفسي وتركيبة عقدية لم يرممها الزمن، فما أن يتبوؤوا منصباً حتى ينفثوا أمراضهم وقلة ثقتهم في أنفسهم ومحيطهم على من يتولون عليه، وبدون ذكر المناصب فأغلب رؤساء العمل في محيطنا يعانون عقدة النقص، لذا تراهم يتصفون بالبجاحة والغرور والتكبر والعنجهية بل يتعمدون ذل وايذاء الغير وكأنهم ولدوا بجلود من ذهب. قبل شهر أرسلت لي إحدى الصديقات فيديو لتقرير لشبكة ال «سي إن إن» الامريكية تناول شخصية قد لا تكون معروفة وهو "الرئيس التنفيذي لشركة الخطوط الجوية اليابانية (JAL)، هاروكا نيشيماتسو"، ذهلت من أخلاق هذا "الكافر" كما يحلو لنا الوصف للتقليل من شأن الآخرين متى ما أردنا، فهذه الاخلاق لم يتصف بها شخص في بلادنا المسلمة، وأتحدى أن يفعل ما يفعله رئيس تنفيذي لأصغر شركة لدينا. يظهر التقرير حياة نيشيماتسو في العمل كيف أنه يقف في صف طويل خلف الموظفين الأصغر رتبة منه للحصول على وجبته، ويجالسهم لتناولها، ويرتدي أرخص الثياب ويستقل الحافلة يومياً للتوجه للعمل وهو الذي يستطيع ببساطة الحصول على أسطول من السيارات الفارهة بسبب منصبه كرئيس تنفيذي لإحدى أكبر الشركات اليابانية وأنجحها، ولكن تواضعه لم يقف عند السلوكيات وحسب بل المذهل حقاً أنه يتقاضى راتبا أقل من راتب طيار لدينا، فهل يعقل ذلك؟. ولا يقف الأمر عند تلك الأخلاق التفاضلية بل لديه أخلاقيات للعمل ناجحة جداً، فلا يقفل نيشيماتسو باب مكتبه ويترك السكرتير أو مدير المكتب يقوم بمهامه، ولا يتعامل فقط من خلال الاجتماعات الدورية لتقتصر رؤيته لكبار الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة وحسب، ولم يهتم يوماً بديكور مكتبه ومساحته واختيار أغلى القطع الأثرية لتزيينه، بل قام هذا الرجل باختيار مكتب متواضع يقع وسط مبنى الشركة ليتسنى للجميع الوصول إليه ووصوله إليهم ولا يقتصر عمله على الإدارة التنفيذية بل يركب طائرات الشركة ويتواصل مع الركاب ويلبي طلباتهم، وحين تعرضت الشركة لخسائر في العام 2009 اضطر مجلس الادارة لتخفيض النفقات فيها، ومنها تقليل رواتب العاملين فاقترح أن يبدأ بتقليل راتبه أولاً حتى وُصف أن راتبه كان أقل من راتب الطيارين في الشركة، كما ألغى علاواته ما عرضه لأزمة مالية جعلته يبادر إلى الادخار لدفع مستحقات مالية وفواتيره الشخصية، تصوروا أنه عانى وعائلته من شتاء قارص لأنه لم يكن لديه ما يكفي لشراء سخان ماء ما اضطره لشرائه بالتقسيط، والهدف كما يقول ليُشعر موظفيه بأنه واحد منهم ويكون لهم قدوة حسنة، وليشعروا بالعدل، وبالطبع هذا يخلق نوعاً من الرضا والولاء لدى الموظف، ما يحفزه على الانتاجية.