كلمة «الثقافة» من المفردات الواسعة الانتشار لدى كثير من الأمم، لكنها تحمل دلالات وارتباطات بمفاهيم متعددة ومختلفة لدى كل أمة، وفي كل حقبة من تاريخ الأمة الواحدة. وكان التنافس القوي في تعريف الثقافة واستخداماتها المصطلحية على أشده في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين بين الطروحات الألمانية من جهة، ومنافستها الفرنسية من جهة أخرى. وحيث لم تنعقد صلات قوية بين البورجوازية والأرستقراطية في ألمانيا، فقد بقيت البورجوازية مستبعدة إلى حد كبير عن أي نشاط سياسي. وقد غذّى هذا التباعد الاجتماعي نوعاً من البغضاء، وخاصة لدى عدد معتبر من المثقفين، الذين واجهوا بالقيم المسماة "روحية"، والمؤسسة على العلم والفن والفلسفة والدين أيضاً، قيم "الكياسة" الأرستقراطية. وقد حرصت الانتلجنسيا خلال تلك الحقبة على تحقيق الوحدة القومية من خلال "الثقافة"، وهو ما لم يتحقق من خلال جهود السياسة. وقد كان الصعود التدريجي بارزاً لهذه الشريحة الاجتماعية، التي كانت قبل ذلك من دون نفوذ، وتوفقت في إحراز شرعية الناطق الرسمي باسم الوعي القومي الألماني. وكانت تكمن وراء هذه التطورات الآلية النفسية المرتبطة بالشعور بالدونية. فكانت تعبيراً عن وعي قومي يتساءل عن السمات المميزة للشعب الألماني، الذي لم يبلغ بعد التوحيد السياسي. وإزاء قوة الدول المجاورة، وخاصة منها فرنسا وإنجلترا، كانت "الأمة" الألمانية، وقد أوهنتها الانقسامات السياسية وتشظت إلى إمارات متعددة، تنشد إثبات وجودها بتمجيد ثقافتها. لهذا نزع مفهوم "ثقافة" (Kultur) الألماني أكثر فأكثر، منذ القرن التاسع عشر، إلى تحديد التباينات القومية وتثبيتها. فكان الأمر يتعلق بمفهوم تخصيصي يتعارض مع المفهوم الفرنسي "حضارة" الكوني والمعبر عن أمة يبدو أنها قد اكتسبت وحدتها القومية منذ أمد بعيد. وكان يوهان غوتفريد هيردر أول من تناول في نص سجالي أساسي سنة 1774م قضية "العبقرية القومية"، التي يملكها كل شعب، وتسهم في تنوع الثقافات، كما تعدّ ثروة للإنسانية، وهي فكرة مضادة في جوهرها لكونية الأنوار (الفرنسية)، التي تنظر إلى الثقافة البشرية بوصفها واحدة، وهي ما ينظر إليها هيردر على أنها مُفقرة. وفي مواجهة ما كان يشعر أنه إمبريالية فلسفة الأنوار الفرنسية المثقفة، كان هيردر يقصد أن يرد إلى كل شعب فخاره، بدءاً بالشعب الألماني. وبالفعل كان هيردر يرى أن لكل شعب قدراً مخصوصاً ينجزه عبر ثقافته الخاصة، وذلك أن كل ثقافة تعبر على طريقتها عن وجه للإنسانية. فكان تصوره للثقافة المتسم بالتقطع، والذي لا ينفي على الرغم من ذلك بحسب رأيه، تواصلاً ممكناً بين الشعوب، قائماً على "فلسفة أخرى للتاريخ" (وهو عنوان كتابه الصادر سنة 1774م) غير فلسفة الأنوار. ويمكننا أن نعد هيردر في هذا الشأن رائد مفهوم "الثقافة" النسبي، حيث كان هذا الفيلسوف هو من فتح أعين المفكرين بعده على الثقافات وتنوعها المثري للثقافة البشرية. وتطورت الفكرة الألمانية الخاصة بالثقافة بعض الشيء، خلال القرن التاسع عشر على وقع تأثير القومية، وارتبطت أكثر فأكثر بمفهوم "الأمة". فالثقافة تتصل بروح الشعب وعبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتدعو إليها. إن الثقافة تبدو على أنها جملة من المنجزات الفنية والفكرية والأخلاقية، التي تكوّن تراث أمة يعد مكتسباً بصورة نهائية، وتؤسس لوحدتها. وكانت فكرة الثقافة التخصيصية هذه على توافق تام مع التصور العرقي - الأجناسي للأمة بوصفها جماعة من الناس ذوي أصل واحد، وهو تصور أصبح سائداً في الفكر الحديث. لكننا نلاحظ في البيئات العربية صدوداً عنه لمصلحة ثقافة سياسية تسعى إلى تكريس الوحدة السياسية قبل الاندماج الثقافي.