في بحثه المعنون ب(نمو المفاهيم) الوارد في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته، كشف الشاعر والكاتب محمد العلي أن قصده من الخوض في البحث عن المفاهيم هو إزالة الغموض عن معنى المفاهيم وعن العلاقة بينها وبين القيم. ولأن العقل العربي أصبح أسير اضطراب منهجية التفكير، كما أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى حجازي، فإن العلي يرى أن ما يتحكم في سلوك الأفراد والمجتمعات ويصوغ رؤيتهم للوجود هو المفاهيم، والكيفية التي تتم بها إزالة الغموض عن معنى المفاهيم وعن علاقتها بالقيم السائدة، وذلك عبر منهج التحليل الثقافي المتكئ على البعدين الثقافي واللغوي. وباعتبار البعد اللغوي هو المنبع او المصنع الذي تخرج منه تلك التصورات والرؤى الفردية والاجتماعية، سيفضي إلى اعتبار البعد الثقافي هو المحصلة النهائية لمجموع تلك التصورات والرؤى والقيم المشتقة منها الطاغية في المجتمع. إلى أي حقل معرفي تنتمي المفاهيم؟ انطلاق الاستاذ العلي لتعريف المفهوم فلسفيا دال على كون الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه المفهوم هو حقل فلسفي كما يعتقد، ولكن هل اعتمده الأستاذ العلي كمدخل له في تفكيك المفاهيم أم لا؟ يعرّف العلي المفهوم فلسفيا بأنه "مجموع الخصائص الموضحة لمعنى كلي".. هذا التعريف الفلسفي صعب الخوض فيه كما يرى العلي، ولهذا يعمد إلى إزاحة الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه المفهوم من الحقل الفلسفي إلى الحقل الثقافي، مقترحا تعريفا أوضح وهو "إن المفهوم هو تحول المفردة اللغوية إلى تاريخية". إذن، اعتماد العلي للحقل الثقافي كمدخل لإدراك (المفاهيم)، يضمر اعترافا صريحا منه بأن المدخل الفلسفي للمفاهيم فوق طاقته الاستيعابية بصفته شاعرا جماليا معنيا بالفن والجمال والسمو، وكيفية غرس تلك المفاهيم في الوعي الفردي والاجتماعي، أكثر من كونه فيلسوفا يحفر عميقا في دلالة المفاهيم فلسفيا وارتحالات تلك الدلالة عبر الزمان والمكان وعلاقتها بالموجودات الأخرى، والأهم الميدان الذي تستهدفه وتتحرك فيه تلك المفاهيم والأثر الذي تتركه. نعم، الشجاعة محمودة، ولكن أن يتجاوز العلي مفهومه (الثقافي) للغة والتاريخ والتحول بصورة بائنة، والطبيعة المعرفية لكل واحد منهم يُعد بحد ذاته إشكالية، ولهذا لن يجدي تعريف (المفهوم) ثقافيا دون أن يلم القارئ بمفهوم العلي للغة والتاريخ والتحول، الواردة في تعريفه الثقافي إلماما واضحا كي يكون تعريف (المفهوم) ثقافيا أكثر جلاء في ذهنه. وإذا كان تجاوز العلي للحقل الفلسفي إلى الحقل الثقافي مبررا من وجهة نظره الخاصة، فإن الباحث الجزائري الحسين الزاوي لا يقبل أي تبرير يسمح بذلك التجاوز، فدلالة المفهوم تنطلق من الحقل الفلسفي لتعود إليه مرة ثانية بعد احتكاكها بالعلوم اللسانية والإبستمولوجية والسيميولوجية الحديثة ذات النزعة التنظيرية للقواعد والآليات المنتجة للمعرفة البشرية. فللمفهوم في الحقل الفلسفي تعاريف عدة منها: المنطقي والإجرائي والتقني، هذه التعاريف تستتبع تباينا بين المدارس الفلسفية الساعية للإمساك بتلك الدلالة الفلسفية للمفهوم ذاته، من هنا يكون الانتقال من الحقل الفلسفي إلى الحقل الثقافي أكثر صعوبة مما تصوره العلي، فالانتقال يعني تراجع فاعلية الحقل الفلسفي في الميدان الاجتماعي/الثقافي دون برهان كاشف عن تحقق فاعلية الحقل الثقافي، فأفق إبداع المفاهيم في الحقل أو الحيز الفلسفي يظل منفتحا، ويبقى ذلك الحيز يضج بالرحابة والاتساع حسب ما يرى الزاوي. في الحقل الفلسفي يتم عرض وتعرية دلالة (المفهوم) التي احتضنته المدراس والإيديولوجيات والفلاسفة المتباعدين زمنيا وجغرافيا بشكل يؤكد التصاق (المفهوم) بحقله الفلسفي ورفضه الفكاك منه، ولا يكتفي الحقل الفلسفي بذلك بل يشرع في تحديد خصائص (المفهوم) وشروط تكونه ووظيفته وعلاقته بغيره. انفتاح أفق إبداع المفاهيم في الحقل الفلسفي لا يعني تنازله عن شروطه المولدة للمفهوم لأي باحث أو فيلسوف، لهذا لا عجب ان يكون "عدد المفكرين والفلاسفة والمشتغلين بالحقل الإبستمولوجي الذين تعرضوا بشكل واضح وصريح إلى مسألة تكوين المفاهيم وتحديد الألفاظ والمصطلحات يعتبر قليلا إلى حد كبير". أولى خصائص المفهوم طابعه الجدلي الذي يمنحه القدرة على التكيف في محيطه المعرفي، وهنا نتفهم تحذير غاستون باشلار لنا من اللحظة المعرفية التي ينعدم فيها الطابع الجدلي للمفهوم، كونه يسمح باكتمال الصياغة النهائية (للمفهوم الفلسفي) بعد التأكد من اكتمال شروط تكونه معرفيا. الطابع الجدلي للمفهوم يسمح ايضا (للمفهوم الفلسفي) بنسج علاقات وطيدة مع غيره، والقيام بدوره الوظيفي في انتزاع الرؤى والتصورات ليتدخل التاريخ بعد ذلك كي يكون شاهدا على مدى انفتاح المجتمع على تلك الرؤى والتصورات، وتمثلها سلوكيا في تحديد رؤيته لذاته ولدينه وللتاريخ وللآخر وللميتافيزيقيا. البناء الفلسفي لتلك الرؤى والتصورات عادة ما تلازمه جرعة عقلانية تشكل مصدا لنزوح الإيديولوجيا نحو تلك المفاهيم بقصد تزييفها أولا وتوظيفها لصالحها ثانية، بينما يجد المفهوم في حقله الثقافي كما تبناه العلي صعوبة في مزاحمة الحقل الفلسفي لبناء تلك التصورات بناء عقلانيا. إذا كان عدد المفكرين والفلاسفة الذين تعرضوا إلى مسألة تكوين المفاهيم قليلا، كما يعتقد الحسين الزاوي، أليس أولى بشاعرنا الكبير العلي أن يفكر قليلا في خطورة اقحام الشاعر ذاته في حقل مفاهيمي ذي نزعة فلسفية؟